دائرة الحلم والعواصف


رائحة البصل


غادر البيت صباحا.. الصقيع يجمد الأطراف .. الزفير يصبح بخارا يتصاعد في الهواء .. روائح القهوة المحمصة تملأ خياشيمه وتفتح عينيه .. حتى القهوة لم يعد يستطيع الحصول عليها ، فأصبح يفطر على وريقات الليمون المغلاة ، أفكار كثيرة تجول في رأسه ، لقد طرق كل الأبواب بحثا عن عمل ، ولكنها جميعا سدت في وجهه ، الجوع يهدده ويهدد عياله .. يداه في جيبيه الممزقين تعبثان بالثقوب ، ورجلاه تجران خفا مهترئا أطلت منه أصابع قدميه . وحين لفظته الشوارع عاد إلى البيت ، وأي شيء في البيت غير زوجة سليطة اللسان تصب عليه أقبح الألفاظ وهي تتهمه بالكسل والخمول وعدم الجد في البحث عن العمل .. أطفاله مشردون في الشوارع لا يدخلون البيت إلا للنوم ، حتى القوت أصبحوا يحصلون عليه بوسائلهم الخاصة ، بعد أن يئسوا من هذا البيت الذي لا يطعمهم من جوع ولا يؤمنهم من مرض، والشمس في إضراب دائم عن زيارة بيتهم الذي هو أشبه بقبو.
ولفظه البيت هو الآخر بعد أن تناول قطعة خبز وحبة بصل فعاد يتسكع في الأزقة والطرقات ، وقد أصبح التسكع جزءا من ذاته ، بعد أن سرح من عمله بمصنع النسيج ، لأن صاحب المصنع ، طرده بمجرد أن اعتلت صحته ، فالمصنع ليس مصحة للعجزة أوالمرضى كما قيل له .
توقفت بحانبه سيارة فارهة ، كان ينتظر أن يسأله صاحبها عن الوجهة التي يود التوجه إليها وقد ظنه سائحا .. أطل من خلف الزجاج الملون بحذر وطلب منه أن يصعد .. نظر إليه طويلا قبل أن يقول له  بتوجس :
ـــ إنك مخطئ ولست أنا المطلوب ..
ولكن السائق البدين قاطعه إذ لا حظ تردده وعرض عليه عملا في بيته .. ارتاحت أساريره أخيرا ، ثم اندس داخل السيارة الفخمة حيث اتجه به نحو البيت .
دفع الباب الحديدي وأفسح له المجال ليدخل فوجد نفسه في حديقة مكسوة خضرة وأزهارا .. سار به في عدة أروقة فالتقت عيناه بعيني أكثر من خادم .. كانوا يحنون له رؤوسهم كلما مر بهم في صمت .. أمر الرجل أحدهم أن يحضر للخادم الجديد مريلة ، وقبل أن يصل نهاية الرواق كان يقدمها في صمت وهو يحدق فيه بذهول غريب .. غير أن الرجل نهره بقسوة وأمره بالعودة فورا إلى عمله .
واصلا السير من جديد باتجاه غرفة منزوية وأخلى له الطريق ليدخلها ثم ارتد مرافقه إلى الوراء وأغلق الباب الحديدي خلفه بالمفتاح .. نظر الرجل حواليه فلم يميز شيئا إلا بعد أن تعودت عيناه على العتمة ..
فجأة سمع صفيرا متصلا .. دهش الرجل لهذا الصوت الغريب ، ولكن هذه الدهشة تحولت إلى صاعقة حين رأى أفعى تغادر فجوة مظلمة وتزحف نحوه .. انتصب مذعورا وهو يفكر كيف يواجه هذا المارد .. جف حلقه وانحبست أنفاسه لم تمهله طوبلا حتى التفت حوله وطوقته وهي ترسل  فحيحها الذي يجتاح أذنيه كعاصفة .. إن فمها يوشك أن يبتلع وجهه .. بكى بحرقة .. صرخ بقوة .. أحس بها تفك الحصار عنه فجأة وتبتعد ، ثم لا تلبث أن تعاود زحفها باتجاهه .. وكلما اقتربت منه يرفع عقيرته بالصراخ المدوي ، فتنبعث أنفاسه مرتجفة ، فتتقهقر إلى الخلف ، لكأن أنفاسه تلدغها .. ازدادت غرابته حين رآها تلتف حول نفسها وتنكمش قبالته يائسة .. لم يصدق عينيه ولم يفطن إلى أن أنفاسه المضمخة برائحة البصل هي التي هزمتها .. تراجع إلى الوراء فاصطدم بالجدار الرطب .. وخذلته ركبتاه فسقط على الأرض .. ظل يحدق باتجاه الزاوية المعتمة ، عيناها ما تزالان تشعان في الظلام ببريق رهيب ، تحسس الأرض الرطبة بيده ، مازال يستشعر في كفيه ملمس جلدها اللدن فيهتز بدنه .. بدأ أخيرا يستعيد سكينته ويسترجع أنفاسه .. فجأة سمع صرير المفتاح يدور في ثقب الباب فانتصب واقفا واختبأ خلفه ، دخل الرجل مزهوا ، صوّب نظره باتجاه الأفعى وعندما رآها هادئة اطمأن إليها ، ليقول لها :.
ـــ هل شبعت الآن ؟
من أين بدأت التهامه ؟ ..
من اللسان كالعادة ؟
 لكن ضربة قوية عاجلته على أم رأسه ، فتح فمه ليستنجد ولكن صوته خانه وانطفأ في حلقه .. قبل أن يتهاوى على الأرض .. أغلق الباب .. التفت يمنة ويسرة ليتأكد من خلو الرواق وانطلق يبحث عن منفذ للهروب فلم يجد غير نافذة صغيرة اتكأ على حافتها بمرفقيه وقفز إلى الحديقة ومنها إلى الشارع واندفع يعدو باتجاه الأزقة الضيقة .
جيجل في : 24 / 06 / 77




الآمال الضائعة


فجر هذا اليوم ، في تلك القرية النائية ، ميزه الجو العاصف الذي صب جام غضبه عليها برياحه وأمطاره.
الكوخ الصغير الجاتم في آخر المنحدر يريد أن ينتصب ، ولكن دون جدوى ، فسقفه مهدد بالانهيار كلما مر إعصار.
ارتعشت "سعدى" وهي تدخل رأسها تحت الغطاء من هول هذه العواصف متشرنقة حول نفسها كقطة مذعورة .
نظر الأب في قلق باد إلى زوجته مستعينا بها:
ـــ أيقظيها قبل أن يفوتنا الركب إلى السوق .
تحركت الأم في تثاقل وراحت تحرك جسد الصبية التي أدركت أن ساعة الرحيل قد حلت ، وأنها ستفارق هذا الكوخ الذي ضمتها جنباته سنوات .. ثم جالت ببصرها تتفقد إخوتها الصغار الذين مازالوا يغطون في نوم عميق ورددت في نفسها:
ـــ ليتني كنت صبيا .
عبير النعناع البري ينطلق من فوهة إبريق صغير تربع على كومة من أعواد الزان والزيتون . انسحبت من فراشها.
ـــ صباحكم بالخير قالت...
غسلت وجهها بالماء الدافئ وتربعت جوار أمها .. تهشمت كومة الأعواد المشتعلة فتطاير منها الشرر .. نشرت راحتيها فوق النار تلتمس الدفء وتنتظر فطورها فصاح الأب في وجهها :
ـــ أنا أنتظرك منذ الفجر وأنت تتربعين هنا لتتدفئي، .. أسرعي فالسيارة قد تنطلق من دوننا .
قال ذلك وانسل خارج الكوخ ينتظرها غير بعيد ، نظرت إلى أمها تسترحمها وتستجير بها من أبيها المتعنت ولكن الأم تجاهلت نظراتها المتوسلة وقالت مشجعة :
ـــ ليتني كنت ذاهبة إلى المدينة .
وحين أحست بعدم اقتناع الصبية أردفت بلهجة لا تخلو من إغراء :
بضعة أشهر فقط تمضي كالحلم لتعودي بعدها إلينا محملة بالأموال والملابس .
غصت الفتاة بريقها .. اصفر وجهها .. اسطكت أسنانها وشعرت بالبرد يجتاح جسدها النحيل .. قفزت إلى عنق أمها وطوقتها بذراعيها كأنها تريد أن تلتصق بها ولا تنفصل عنها إلى الأبد .. خارت قوى الأم وسئمت من وقارها ولهجتها المصطنعة فراحت تغمر شعرها بالقبلات ، ثم تعالى نشيجهما معا في بكاء مرير ملأ أرجاء الكوخ .. عندها صرخ الأب من جديد متوعدا .
انسلت من الكوخ وسارت وأبوها في درب جبلي لفتهما منعرجاته .. نزلت أمطار غزيرة وغلف الطين رجليهما الحافيتين .. وصلت إلى الطريق فوجدت السيارة تنتظرهما .. التفتت إلى الوراء وألقت نظرة إلى الوهاد البعيدة تودع بها الأرض التي أنبتتها .. دلفت إلى السيارة .. جلست على المقعد الوثير لأول مرة في حياتها .. أخرج السائق لفافة تبغ أشعلها وراح ينفث الدخان سحبا تتراكم في سقف السيارة .. ضاقت بالرائحة التي خنقت أنفاسها .. شعرت بالدوار يجتاح رأسها وبحاجة إلى أن تفرغ ما في معدتها .. طالت الطريق وامتدت كأبد لا متناه ..كرهت جلستها وازداد سأمها :
ما لهذه الأشجار تريد اللحاق بنا .. قالت في نفسها
ثم تشاغلت بالتحديق في مساحتي الزجاج تزيلان قطرات المطر التي تنقر الواجهة الأمامية وهما تتحركان ذات اليمين وذات اليسار .. رتيبة مملة هذه الحركات وجدتها أيضا .
وصلت السيارة أخيرا إلى المدينة .. غادراها وسارا في الشوارع يسبقها بعدة أمتار وهي تحث الخطى خلفه للحاق به .. تقطعت أنفاسها من هذا الركض الذي يشغلها عن العيون المحدقة فيها .. كانت تتأرجح في هرولتها بجبتها الطويلة وعصابتها التي أحكمت شدها  كأي بدوية تدخل المدينة فلا تخطئها العين .. وقد شغلها اهتمامها بملاحقة أبيها عن تأمل البنايات العالية المتراصة على جانبي الطريق .. وفاجأها بغتة بوقوفه أمام باب كبير ، وانخلع قلبها خوفا حين أطل رجل بدين أصلع علق على شفتيه ابتسامة ساخرة وقال :
ـــ عرفت أنك أنت ، وليس من أحد غيرك يجرؤ على إزعاجنا في مثل هذا الوقت المبكر .. لقد كان أمامك متسع من الوقت طوال اليوم .. أهذه هي ابنتك ؟ ولم يمهله وقد أضاف آمرا :
ـــ ادخلي أنت ..
وأفسح للصبية بعض الطريق فلم تأبه له بل ظلت مشدوهة جامدة في مكانها.
ودع الأب الصبية التي تعلقت به وبكت ورجته أن يعود بها إلى البيت ، ولكنه نهرها وسد أذنيه عن توسلاتها وقفل راجعا وهو مفعم بالهواجس والهموم .. وفي طريق العودة كانت تنتظره نفس السيارة ، نفس السائق ونفس الجلسة .. لم يتغير شيء سوى الكرسي الذي صار شاغرا بعد أن كانت تحتله ابنته قبل ساعات .. التفت خلفه يستقصي بعينيه الحقيقة فمني بالخيبة .. أدرك عندها فداحة خطئه ، فحدث نفسه :
ـــ كيف أعود إلى البيت من غير "سعدى" كبرى أبنائي..
"سعدى" التي تملأ صباحاتي ومساءاتي بخدماتها ..
"سعدى" التي تقطع الدروب حافية لتأتيني بغذائي إلى أي حقل مهما بعد ..
أواه ما أتعس المرء حين يضنيه الفقر ويذله الاحتياج . وشعر بالغصة في حلقه والدموع تغشى مقلتيه  فقطع حبل هذه الأفكار حتى لا يثير انتباه السائق .. ألقى برأسه إلى الوراء ــ كالمتخاذل ــ وأغض عينيه منغمسا من جديد في دوامة من الندم واليأس .. لو أهال التراب عليها بعد أن وسدها الثرى لربما كان ذلك أرحم من هذه الهواجس التي تطارده وتستفزه بلا رحمة .. كيف سولت له نفسه أن يرمي فلذة كبده في خضم المدينة لأجل ..
وتذكر أطفاله الجياع العراة الحفاة فغفر لنفسه .
صبت السماء أمطارا غزيرة وغامت الدنيا تحت السحب السوداء وارتعشت عجلات السيارة  حين عجز السائق عن التحكم في الفرامل وانحرفت عن الطريق وهوت في المنحدر إلى أن أوقفها جذع شجرة .
وليت "سعدى" علمت بمصير والدها لتدرك معنى للقنوط الذي تشعر به والألم الذي تحسه ، فلقد كان قلبها يخفق خفقانا سريعا بين ضلوعها كما لو كان بصدد أن يتوقف عن النبض .
ونامت لأول مرة في غرفة بمفردها فأطلقت العنان لدموعها ؛ بكت كثيرا كما لم تبك من قبل ، وجفاها النوم فبقيت قلقة أرقة .. شدت الغطاء على جسدها النحيل تحتمي به من الوحدة ومن البرد .. لكم هي باردة ورطبة حجرتها المنعزلة هذه .. غفت عند مطلع الفجر ولم تستيقظ إلا وقد أعلن النهار عن طلوعه بالضوضاء والأصوات .. تثاءبت في فراشها وهبت خجلة لتتسلم برنامج عملها : غسل الأطباق ، مسح البلاط ، ترتيب الأشياء ، تسوية الفرش والاعتناء بالعجوزين ..
شعرت بالتعب المضني تحت وطأة العمل المتواصل إلا أنها كانت تهون على نفسها كل هذا العناء حين تتذكر أنها ستعود إلى أهلها محملة بالأموال والملابس كما قالت لها أمها . كانت تعمل بلا هوادة طوال اليوم كأنها من جنس غير بشري ، لا يتألم ولا يتعب ولا يحس ، وازداد جسدها نحولا ففتر نشاطها وقل عملها وشحب وجهها ، ولا أحد اهتم بها حين أضحت تنفث من صدرها سائلا أحمر اضعف قوتها وأذبل عودها فنبذت إلى حجرتها الرطبة وتناسوها تماما كما لو لم تخدمهم ولم تعش بينهم يوما واحدا .
كانت أمها منشغلة عنها بزوجها الذي سحق الحادث عظام ساقيه ، ولكن ذلك لم يمنع أخاه من أن يأتيه للمرة الثالثة طالبا يد ابنته "سعدى" :
ـــ إنها ليست هنا
ـــ غدا يوم سوق وسوف أحضرها
ـــ انتظر حتى أشفى
ـــ سأعود بها بدلا عنك
ـــ ربما مانع صاحبنا أن ترافقك من دوني
ـــ هيه ، أولست عمها؟ ، ستتبعني بمجرد أن تراني
انطلق العم باكرا نحو المدينة التي كانت ما تزال نائمة تتمطى في رداء ضبابي .. غادر السيارة وقد تواعد والسائق على الملتقى بعد ساعة .. قصد لتوه إحدى المقاهي فشرب فنجان قهوة وانتبذ مكانا قصيا في زاوية المقهى المعتمة وبدأ يهيئ نفسه لمواجهة الموقف محدثا نفسه بصوت خافت :
ـــ يجب أن أبحث عن البيت أولا ، ثم أعرف الرجل بنفسي وأفهمه سبب مجيئي ويأتيني بالصبية ونحل المشكلة بعد أن نقرأ الفاتحة ونعدهما للزواج وسوف لن يرهقني أخي بالمهر .
أنقد النادل ثمن القهوة وحث الخطى إلى مبتغاه ، سأل أكثر من شخص حتى وصل بوابة الحديقة فوقف مترددا مرتبكا ثم فتحه بهدوء وسار نحو باب المنزل الكبير وطرقه ، ودون أن ينتظر طويلا أطل الرجل البدين الأصلع فبغت وارتسمت على وجهه كل علامات الذهول وهو لا يصدق ما تراه عيناه .
ـــ كيف طار الخبر إليهم بمثل هذه السرعة ؟
واتسعت حدقتاه أكثر ففغر فاه ليتكلم فتوقفت الكلمات في حلقه حين خذله لسانه ، وأنقذه الرجل من حيرته حين بادره :
ـــ أنا عم "سعدى" وأنت لا تعرفني .
وانطلق لسانه من عقاله وقال في هدوء :
ـــ عرفتك ، نعم لقد عرفتك ، فأنت تشبهها تماما ، ولكن من   أخبركم ..؟
ولم يدعه ليكمل سؤاله حين توسم فيه التفهم والتواضع.
ـــ لقد جئت لأخذ "سعدى" فقد خطبتها من والدها .
حرك الرجل رأسه في أسف حين أدرك أن العم لا يعرف شيئا عن مصير الفتاة وقال في نفسه :
ـــ ليته عرف الحقيقة فأعفاني من إخباره بهذه الفجيعة .
وقاده نحو كرسي حديدي وهو يقول بصوت خفيض :
ـــ اجلس يا أخي اجلس ، فسبحان من بيده الأعمار ، لكأنما كنت على موعد مع القدر ، فشكرا لله الذي أعفاني من مشقة التنقل للبحث عنكم فلقد توفيت الصبية ليلة أمس .
انتفض العم من هول الصدمة ، لكنه تمالك نفسه وظل يحدق فيه حتى تحرك الرجل متجها نحو غرفة جانبية ليترك العم جالسا مطأطئ الرأس يتدبر الأمر.
لملمت الشمس أشعتها المتناثرة على الروابي والمنحدرات الجبلية ، وتأهبت للغروب تودع كل كائنات القرية النائية .. أطلت سيارة سوداء من المنعطف تشق الطريق في اتجاه الدشرة، فوقف السكان جميعهم مشدودين إلى هذه السيارة الغريبة التي تمزق سكون المساء بعويل محركها ، وكلما اقتربت منهم يزداد فضولهم وهم يتوجسون منها خيفة .
نزل العم منكس الرأس ، تقدم منه بعض الرجال يستطلعون الأمر، فأشار بيده إلى داخل السيارة حيث يرقد جثمان "سعدى".
أنزلت الجثة الملفوفة في لحاف فارتفعت أصوات النساء مولولة في بكاد جنائزي حادّ .. وضربت الأم على صدرها حتى لم تعد قدماها تقويان على حملها فتداعت على الأرض لا تعي ما حولها .. وتصاعدت زفرات حرّى من داخل الكوخ :
ـــ لقد بكيتك يا ابنتي يوم أن عدت وحيدا ، لكأني كنت أعرف مصيرك .. أنا السبب يا ابنتي .. سامحيني ..
وغرقت القرية في الظلام غير بصيص نور باهت ظل طوال الليلة ينير الكوخ الصغير حيث يرقد الجسد الصغير المسجى .

جيجل في 08 / 02 / 1969









لن يطلع القمر


لكأنما القمر وهو يلقي بخيوطه الرمادية الناعمة التي تتراءى عبر زجاج النافذة  بصدد أن يخفف عن الكائنات حرارة الأنفاس حين تلهب الجو .
أطفأت "فاطمة" ضوء مصباح غرفتها الفاتر وضمت لصدرها رزمة أوراق بيضاء بين يديها ، ثم عادت فأضاءت الغرفة من جديد وأخذت تفتحها واحدة تلو الأخرى ، تلقي نظرة خاطفة على هذه وتطالع بعض السطور من تلك .
في ذلك اليوم البعيد حين مالت الشمس للغروب مخلفة وراءها غلالة من خيوط ذهبية وقفت "فاطمة" تتأمل ابن عمها "أحمد" لآخر مرة على درب القرية  الساكنة قبل أن يهاجر إلى الخارج بحثا عن العمل ، وإنها تتذكر ما قالته له يومها :
ـــ ولِمَ تذهب إلى هنالك وأرضنا تنتج كل الخيرات ؟
أجاب وطيف ابتسامة يحط على شفتيه :
ـــ  إن العمل في الحقل يرهق جسمك ، فأنت لم تخلقي لمثل هذه الأعمال .
حينذاك رفّت ابتسامة عذبة على شفتيها تكشف عما يزخر به صدرها من مشاعر وبين جوانحها يعيش أملها المرتجى.
كانت الأفكار تتناثر في رأسها الصغير فتحرك آمالها الدافئة ، وعادت إلى نفسها لتردد :
إنه في بلاد الغربة ، كيف يقضي نهاره ؟ أين يتجول ؟ مع من يعيش ؟وأسئلة أخرى كثيرة تتضارب في رأسها وتتزاحم .
وفتحت رسالة من تلك التي تشغف بقراءتها أكثر من سواها لأنها أولى رسائله إليها
( كانت الزرقة تمتد نحو الأفق البعيد الذي لا يحده غير عجز البصر وتخيلت أن السماء ستنطبق على الأرض في نقطة ما ، كنت أنتظر أن تغرب الشمس ويطلع القمر الذي يذكرني دوما بك ).
وانقطع "أحمد" عن المراسلة واستبد بها القلق وتسرب الشك إلى نفسها ، وصور لها الخيال كل شر تمنت ألا يحدث، ولم يأت منه ما يطمئنها وذات صباح دق الباب فترددت في فتحه، ولكن الرسالة نفذت من شق الباب واستلقت على الباحة في تكاسل .. فهبت نحوها بلهفة وفتحتها بسرعة وراحت تجوب سطورها بعين الشوق وما كادت تصل إلى جملة فيها حتى توقفت عندها وصارت تعيدها في ذهول وأنفاسها تتلاحق وزاد اتساع عينيها حين قرأت :
( زوجوا "فاطمة" إذا كان هناك من يطلبها )
ودارت بها الأرض حين انهارت أحلامها دفعة واحدة ولم تعد تعرف ماذا تفعل ولا ماذا تقول :
ـــ لا شك أنه تزوج هناك ، وأنا أصد الخطاب هنا ، أواه لقد وعدني .. وماتت الكلمات على لسانها وأوقفت في حلقها ، فشخصت ببصرها تتأمل الأفق البعيد ساهمة حاولت أن تكبح جماح نفسها وأن تسيطر على أعصابها برهة قبل أن تتساقط العبرات حارة تحرق خديها ، مسحت دموعها بظاهر يدها ورفعت رأسها تتلفت حولها كأنها تبحث عن شيء.. شعرت بالحقد يجتاح كيانها ويمزق قلبها الغض في عصبية بالغة .. وفي هذه المرة لم تعد تنتظر أن يطلع القمر أو أن تغرب الشمس وقد أصبح الأمر لديها سواء ، وإن كان يهمنا نحن أن نسائل القمر حين يلف الدنى في غلالته الرمادية فهو وحده يدلنا على الجهة التي قصدتها حينما غادرت القرية ليلا نحو الجبل لتلتحق بإخوانها المجاهدين .
جيجل في : 27 / 02 / 68



سيــــعود


ما أن أرمي بمحفظتي إلى أي ركن بالبيت في كل عطلة حتى أحمل الحقيبة الجلدية لأنطلق إلى أخوالي في الريف .
حيث الحقول الشاسعة ، أشرب من كل نبع ، وأقذف برجلي كل حصاة تعترض طريقي .
استقل الحافلة قبل طلوع الشمس وأزجي الوقت متسليا بمراقبة الأشجار المتسابقة على حافتي الطريق وأنا أفكر بجدتي التي تكون في مثل هذا الوقت مستغرقة في تأدية الصلاة .. وما أكاد أفتح الباب الكبير لبيتها حتى أسرع نحوها وأجعل رأسي في صدرها لتطبع عليه قبلاتها قبل أن تشرع في مساءلتي عن والدتي واخوتي واحدا واحدا، ثم لا تتركني أغادر مكاني قبل أن تقدم لي البيض أو الفطير . لا ألبث بعد هذه المراسيم أن أعبر حقول الجيران غير آبه بنباح كلابهم حتى أصل كوخ "رنجية" مجنونة القرية كما يسمونها، إن تاريخ تعرفي عليها ، لا أستطيع أن أنفض الغبار عنه لأتذكره . فمنذ صغري وأنا أزورها في كل مرة أذهب فيها لرؤية جدّيَ العجوزين .. لا أخافها رغم ما تنسجه أفكار الصغار عنها :
أنها تخرج ليلا من كوخها وتخطف الأطفال .
وأنها تقطع السبيل على السراة وتجبرهم على قضاء الليلة معها .. وأقوال أخرى كثيرة لا أدري كيف لم أعرها اهتمامي، بل كلما خلوت إلى نفسي أتصورها أمامي بقامتها الفارعة وأثوابها الطويلة وشعرها الفاحم المرسل في ضفيرة مديدة خلف ظهرها ، ضفيرتها التي هي كل ما يظهر من تحت الغطاء الذي تسربل به رأسها ، وعيناها الحزينتان تبحثان عن الدفء وتعلنان أنهما على استعداد لمنحه أيضا .. تعيش بمفردها رغم أن لها عائلة كبيرة ، فأي ذنب جنته هذه البائسة حتى بترت كالغصن النضر من شجرتها ، فرحّلت من بيت والديها وعاشت لوحدها في هذا الكوخ الذي قضت فيه أجمل سنوات عمرها ، وهي تردد صلواتها الطافحة أملا ، أملها المرتجى الذي لا يزال حيا في قلبها والذي من أجله اتهمت بالجنون .
أفتح بابها بهدوء دون أن أطرقه ، لأني أعلم مسبقا أنه سيعلن عني بإحداث فرقعة شديدة . إن "رنجية" على كل ليس لها المال لتستبدل به بابا جديدا ، ومن ناحية أخرى فله فائدته إذ يعلمها بقدوم المتطفلين أمثالي .. بمجرد أن صر الباب حتى أدارت رأسها تستفسر بعينيها عن القادم إليها .. كانت تؤدي عملا ما ، يدل على ذلك الدخان الكثيف المتصاعد أمامها .. قفزت نحوي وقبلت رأسي كما كانت تفعل دائما معي وراحت ترحب بي ..
والله إنك لأصيل يا ابن المدينة حين تذكرتنا
وأجيبها وأنا الوحيد الذي كانت تقبل دعابته كما قالت:
ـــ وكيف أنساك يا ابنة الريف والكسرة والزيتون .
وكأن جوابي هذا حافز يدفعها إلى داخل الكوخ ، ومن كيس كتاني معلق في مسمار إلى الجدار الطيني تخرج لي قطعة كسرة دافئة آخذها شاكرا وأروح ألوك قطعها حتى يتحول نشاها إلى سكر .
ـــ هل تعلمين يا "رنجية" ماذا أحضرت لك هذه المرة ؟
ـــ لا يعلم الغيب إلا الله .
ـــ خمني ؟
ـــ حلوى .
ـــ لا .
ـــ لبان .
ـــ كلا لم توفقي .
أقول وأنا أخرج المنديل المخبأ تحت ثيابي ، والذي اشتريته من مصروفي الخاص . وتتناول الهدية بكلتا يديها بادية الفرح.
إنني أحفظ بيتها شبرا شبرا ، باحة صغيرة في إحدى زواياها كانون أسود وعلى الجدران علقت كل أنواع الأواني الفخارية التي هي من صنع يديها ، تعلو الجدار قطعة من القصدير تحولت إلى اللون الأحمر بفعل الصدإ الذي يعتليها ناهيك عن الثقوب التي جعلت منه غربالا لقطرات المطر شتاء .. وإلى اليمين كوخها البائس المحتوي على فراش وضع على بضعة ألواح أسندت إلى أربعة أحجار من الطوب ، وصندوق خشبي أحسب فيه ملابسها وكل عزيز عليها ، في الجدار الغربي غرابل معلقة وأوان فخارية وجلود حيوانات .
جلست على حجر كبير كأنما أعد لهذا الغرض ، كنت أشعر بنسمة باردة تتصاعد في أوصالي وأنا اقبع على هذا الحجر الجليدي ، ولكن حركات "رنجية" الرشيقة وهي تقلب قطع الكسرة فوق النار أنستني الشعور بالبرد ، وجمدت قطعة كسرتها في يدي وأنا أتأمل حركاتها . كان الوقت باكرا والمكان ساكنا فقالت وقد رفعت رأسها نحوي لتتأكد من وجودي معها :
ـــ ما لك صامت ؟
ـــ أفكر .
ـــ تفكر ؟ في أي شيء تفكر ؟ أنت ما زلت صغيرا .
ـــ أفكر فيك.
فاجأتها بإجابتي فردت على الفور .
ـــ تفكر في ؟ لماذا ؟
ـــ لأنني سوف لن أعود إلى هنا قبل مضي وقت طويل ، فأنا متوجه إلى الخارج من أجل الدراسة .
رنت إلي بنظرة حزينة أسبغت عليها كل ما تملكه من عطف وحب وقالت :
ـــ أواه .. إنني سأفقدك إذن .. هكذا أنا كلما أحببت إنسانا رحل عني وتركني .
ثم أشارت إلى صدرها :
ـــ أرحل فأنت هنا في قلبي ؛ حتى لو رحلت إلى آخر الدنيا دائما هنا ، وجنبا إلى جنب مع "محمود".
ـــ من هو "محمود" ؟
ـــ خالك .
ـــ خالي .. ولماذا هو في قلبك ؟
زمت شفتيها وظهرت على سيماها آثار حزن ، ونام جفناها على بعضهما وهي تقول :
ـــ نعم ، خالك ، لقد حدث ذلك فيما مضى ، حقا حدث ذلك .. أنت تعرف المساحة الشاسعة التي تقع تحت البيدر مباشرة ، إننا نسميها الرحبة ، وفيها يقام كل ما هو جماعي من ألعاب وولائم وأعراس ومواسم ، هل سبق لك أن رأيت عرسا هناك ؟ . تابعت وقد أومأت لها برأسي أن لا :
ــ كان ذلك قبل الحرب بسنوات حين احتفلنا بزواج أخويّ، كان العرس كبيرا شهدت بهجته القرى المجاورة ، حيث أقيمت سهرة حافلة رقصت فيها الخيل والصبايا والفرسان ، لقد كنت أخت العريسين وتقاليدنا تخـــــــص الأخت
بافتتاح السهرة الراقصة ..
ـــ دخلت الرحبة تحت زغاريد النساء وطلقات البارود ورحت أميد مع الطبل والمزمار ، وما كادت السهرة تنتهي مع طلوع النهار حتى كنت أحمل خاتما من خالك .. هكذا حملت من عرس أخوي أجمل ذكريات العمر اعتقادا مني أني توجت الحفل وكنت أجمل من فيه قبل أن يشيع حديث حبنا في القرية، فقرر خطبتي ، وفعلا تقدم يطلب يدي ، ظننت أن أهلي سيرحبون به لذلك لم أول الأمر كبير أهمية ، ولكن الذي حدث كان عكس ذلك تماما ، حيث رفض والدي رفضا قاطعا لا رجعة فيه :
ـــ أنا أزوج ابنتي من هذا الصعلوك ؟ ألا يعرف من نحن حتى يتجرأ على التقرب منا ، سأطلق عليه النار لو عاد ثانية .
أصبت بخيبة أمل أفقدتني صوابي وحطمتني بقسوة فانهارت أعصابي وانكفأت على نفسي أجتر الذكريات .. واندلعت الثورة ، وانتشر الحريق الكبير فالتحق أخي بصفوف المجاهدين وتعامل الثاني مع العدو ، فأنذره الأول بأن يقتله إن التقى به ، وقال له الثاني :
ـــ سأقتلك لو رأيتك .
وتوالت المحن .. وتوفي والدنا وفقدنا بعض ثروتنا ، ويئس الأهل من شفائي ولم أيأس من عودة "محمود" فأملي فيه أبدا يطغى على يأسي ، وعاد فعلا يخطبني وفي هذه المرة أمه هي التي وقفت في وجهه :
ـــ وحيدي يتزوج من مجنونة لن يحدث هذا وأنا حية .
وازددت تمردا وحقدا فضربت كل من وقف في وجهي ، حتى أخي العميل كان لا يجرؤ على النظر في عيني ، وأوثقوني فاستطعت أن أفك الوثاق وأهرب لعدة أيام همت خلالها في الحقول والبراري .. وعدت فخافني الأهل وفروا من طريقي ، ثم أرسلوا في طلب أخي المجاهد لعلمهم أنه الوحيد الذي أجله وأطيعه ،فأقنعني بضرورة الرحيل عنهم ، فقبلت ، وأقام لي هذا الكوخ ونقلني إليه وقضى معي ليلته الأخيرة قبل أن يعدم في الصباح الباكر رميا بالرصاص ويرقد رقدته الأبدية تحت شجيرات الزيتون الملتفة .. تصور المشاعر العظيمة التي أحملها لهذا المكان المقدس فهل ألام إذا أنا حججت إليه في كل ليلة ينام فيها الخلق .. لم اصدق أن أخي الأكبر مات وأن خالك قد اختفى في ظروف غامضة .. إنني ما أزال أنتظر عودتهما حتى يزوجني أخي من خالك .. سنحتفل بقدومهما حين يعودان ، أم انك مثل الآخرين لا تصدق بعودتهما إلى هذا المكان.
قلت في اضطراب :
ـــ بل أنا أصدق بعودتهما مثلك تماما.
فقالت بهمس :
ـــ لست مجنونة .
وتأهبت للرحيل ، فتأملتني طويلا ثم قالت :
ـــ لا تنس أن تزورني كلما تفقدت أخوالك .
ـــ سوف لن أنقطع عن المجيء إلى هنا .
ودعتها عائدا وأنا أحمل غصة في صدري .. لم تخرج هذه المرة لتودعني كعادتها ، بل ظلت جاثمة في مكانها كقديسة غارقة في تأدية طقوسها وتأملاتها في لحظات من الصفاء والتجلي العظيمين .
جيجل في 07 / 11 / 70


إحالة أولى : خالي "محمود" لم يعد ، ولن يعود لأنه منذ أن أخذه المظليون لم ير له أثر بعدها
إحالة ثانية : ماتت "رنجية" ولم تر القرية حين عاد إليها أخوها الشهيد يحمل إليها السكن والماء والكهرباء وتحمل هي اسمه .













المواجــهة


سمرت عينيها على الموقد المنطفئة جمراته منذ الصباح .. حركت رأسها تباعا وهي تحس طعم الملح في فمها كلما توسدت أفكارها ذكرى ولدها العاق .. اختنق الدمع في عينيها وضجت أعماقها المطعونة تتساءل ككل مرة :
ـــ كيف استطاع أن يخلعنا من ذاكرته طوال هذه الفترة، وقد امتص الاحتياج عمرنا وحول أيامنا رمادا ؟
أدارت العجوز التي تقبع في زاوية الكوخ رأسها نحو الباب وقد سمعت وقع أقدام شاحبة تقترب .. ملأ زوجها المدخل منكس الرأس فكبر جرحها .
طلع النهار وشوهد الشيخ يتكئ على عصاه منزلقا نحو الطريق المعبد .. استوقف شاحنة حملته بكل وجعه نحو المدينة، أمضى الوقت يحدث السائق عن ابنه من غير سأم .. وصل المدينة الكبيرة  ضجيج السيارات ، لم يستطع التغلب على نداء بطنه .. نظر إلى يده المعروقة تمتد في وجوه المارة تستعطي لقمة الخبز فملأ الذعر نفسه التي كانت تصرخ بالسؤال :
ـــ أهذه يدك حقا طاوعتك وامتدت تستجدي الآخرين ؟
بكى حتى غمرت الدموع مقلتيه ، فلم ير اليد التي أنزلت في يده دينارا ..
كسا العناء ملامح وجهه واختنق حلقه وهو يبحث عن ابنه بين الوجوه المتشابهة في الشارع الذي أرشد إليه .. وعثر على البيت فلم يشأ أن يزعج أهله وفضل أن ينتظر نجله في الخارج .. نزل المطر غزيرا وتمرغت الرياح فوق الثلوج وعادت تصفع الوجوه بوحشية .. كان يتكور بالقرب من مخبزة حين رآه يعود وقد انسكب المساء على المدينة .. أشرقت الفرحة في عيني الشيخ وانبثق أمل في قلبه دفعه نحوه بلهفة ، وظنه الابن متسولا فهرب بوجهه عنه إذ اعترض طريقه .. سطا الحزن  على فرحة الأب وتقلصت لهفته وهو يقول :
ـــ أولم تعرفني حقا يا بني ؟
ارتبك الابن وابتسم بمرارة ثم راح يداري خجله وهو يتلفت في كل اتجاه .. قاده بعدها إلى شارع جانبي غادره الضوء وسلم عليه .. نظر إلى أسفل فارتطم بصره ببنان والده تطل من النعل المطاطي المثقوب .. رفع رأسه فالتقت عيناهما في صمت بارد .. اتجها معا نحو البيت فأخرج المفتاح من جيبه وأداره في ثقب الباب .. استقبلتهما امرأة ضاحكة فأشرق الضياء في وجه الشيخ الذي سأل :
ـــ أهي زوجتك ؟ رد باقتضاب :
ـــ إنها الخادمة .
قال الشيخ ببرود :
ـــ وأين زوجتك إذن  ؟
ـــ في عملها ..
ثم أضاف في حسرة :
ـــ اليوم عيد ميلادها الذي ستحتفل به مع جمع من أصدقائها ، ويجب أن ترحل من هنا حتى لا يقهرك الذهول مما ستراه وتسمعه.
تظاهر بالبحث عن بعض الأوراق وتراجع خلفه طالبا من أبيه مرافقته للعشاء خارج البيت .. رفع الشيخ عصاه وقد جلده التعب وسار يتبعه .. اتجه نحو بناية كبيرة فصعدا بعض درجاتها ثم أشار إليه أن ينتظر في الرواق ، أجرى بعض الترتيبات وعاد إليه وقد انبعثت من عينيه لا مبالاة فجة :
ـــ تعال لتراها
قال الشيخ والغبطة تفرش تجاعيده
ـــ زوجتك ؟
رد الابن ببرود :
ـــ لا ، بل الغرفة التي ستقيم فيها .
تحجر قلب الشيخ وملأ طعم الرماد فمه فأحس نفسه معلقا في فضاء سديمي مضطرب ، خرق ابنه بنظرات ثاقبة وحرك قدميه نحو الشوارع المهجورة .
25 / 06 / 71














ثـمــن الخطأ


أفق حياتها لا يتعدى البيت والمدرسة ، فهي ليست أكثر من عابرة سبيل بالنسبة للوجوه التي تلتقي بها كل صباح ، ولكن بالنسبة إليه صارت شيئا آخر .. كان وهي تمر أمام باب دكانه يرسم عليها كل المعايير التي حددها لشريكة حياته .. سورها بنظراته الولهى في البداية ثم طاردها برسائله وهداياه الثمينة حتى أنفذها مقاومتها وأذعنها للتيار ، وعندها فقط سلمها مفتاح شقته ، فلم تتردد في الذهاب إليه .. كانت تجده في انتظارها مع كل قيلولة فتقضي معه ساعات هوجاء تضيع فيها حدود مراسيها ، وحين تعبت من الجري وراءه طلبت إليه أن يتزوجها .. كانت تعتقد أنه سيتقدم طالبا يدها بمجرد أن تشير ، ولكنه خيب ظنها حين قال ببرود :
ـــ لم يئن الأوان بعد .
سمرت عينيها في وقالت :
ـــ لقد أحببتك وضيعت نفسي لأجلك فلا تخدعني .
احتضن وجهها بين راحتيه وقال :
ـــ لم تنظرين إلي هكذا ؟
وتوسلت إليه :
ـــ حاول أن تطلب يدي فالعيون بدأت تتهمني .
قال بعدم اكتراث :
ـــ سأحدث الأهل في الموضوع .
ولم تجد ما تعلق به على اقتراحه لأنها لم تعد تستطيع أن تمزق حصاره وهو الذي جعل منها كل هذه الشابة الأنيقة التي تدير الرؤوس أينما حلت .
حين عادت من المدرسة ظهر يوم رأت دكانه مغلقا فتهدمت أعماقها وغمرها إحساس مفجع ، لكنها منت نفسها بسفره رغم أنه لم يخبرها بذلك .. تلقت في المساء خبر الحادث الذي وقع له وهو يقود سيارته في حالة سكر .. تجمد إحساسها وتفجرت فقاعات مرة في حلقها ، فزحفت إليه في المستشفى لتطمئن عليه .. كانت آخر من يصل وقد سبقها الجميع إليه .. حيته من بعيد ووقفت تنتظر فرصة الانفراد به .. ولم تحن هذه الفرصة إلا ووقت الزيارة قد انتهى ، اقتربت منه وقد مزقها الانتظار فقالت بأسى :
ـــ أحمد الله على سلامتك ، كيف حالك الآن ؟
ـــ بخير .
قالت وهي تخرج من حقيبتها المدرسية مذياعا وحلويات.
ـــ ولم تــــ..
قاطع كلامها دخول امرأة لاهثة تستحم في عرقها والتي قالت بمجرد دخولها :
ـــ لم أستطع أن أصل إليك يا أخي العزيز إلا الآن ، أنت تعرف ظروفي .. ثم من هذه المرأة التي تقف عند رأسك ؟
ـــ إنها زوجة صديقي . قال بلامبالاة .
شمل الذهول ملامحها فرنت إليه بنظرة استعطاف كأنما ترجوه أن يلغي حكمه القاسي عليها ، وحين يئست منه انسحبت تشد على وجهها كما لو تلقت صفعة من يد شرسة .. وتحطم شيء في أعماقها وأبى أن يلتئم ، بل ظل يشعرها بغربتها عن هذا العالم الذي أخذ يمقتها .
غادر المستشفى بعد أسابيع فزغردت بخطاها نحو دكانه وقد نطت الفرحة من عينيها وقفز قلبها في صدرها ، ولكنه لم يهتم بقدومها ، بل اكتفى بأن شكرها على زيارتها له في المستشفى وهو يرد لها المذياع الذي أهدته إياه وعيناه تتبرآن منها.. خبت فرحتها وأحست بثقل في رجليها حين حزّ أحلامها التي امتطتها طويلا :
ـــ ولكن جنينا يحتل رحمي ؟.
فرد هازئا :
ـــ وما دخلي أنا بجنينك ؟.
وأضاف ناصحا :
ـــ كان عليك أن تحتاطي للأمر كما تفعل الأخريات .
ثم أكمل :
ـــ إن كنت تريدين مالا أعطيتك ..
صفعها موقفه فركبها جنون مفاجئ جعلها ترفع المذياع وتحطمه على الأرض ثم تنطلق نحو الشارع.
حين دخلت المدرسة ، علمت أن المدير سأل عنها عدة مرات .. ارتسمت الدهشة على ملامحها واضطربت خطواتها وهي تسعى إليه .. طرقت الباب وأزاحت بعض الحزن عن محياها حين علقت على شفتيها ابتسامة باهتة :
ـــ مساء الخير .
ـــ أهلا تفضلي بالجلوس .
قال وهو يسوي أوراقا بين يديه بعد أن وضع القلم . سحبت أقرب كرسي إليها وهبطت عليه :
ـــ الحقيقة أنني لا أدري من أين أطرق الموضوع ؟
غاصت في كرسيها أكثر وقد ضجت أعماقها وكادت أن تقول :
ـــ ابدأ من حيت شئت فأنا أكاد أعرف ما ستقوله فلم يعد هناك ما يخفى .
أعادها من دوامة أفكارها صوته الرصين :
ـــ فكرت في الموضوع من جميع جوانبه ولكنني كنت فقط أنتظر الوقت المناسب .
طافت بذاكرتها بعض شطحاتها في الشقة الشاغرة فأحست بقطع صبار تنحشر في حنجرتها .
ـــ ربما كنت لا تعرفين أن لي أخا درس الطب في الخارج  وعاد أخيرا بعد أن أنهى تخصصه .. أنا أعتبرك مثل ابنتي ومن الواجب ألا أتحرج حين يكون الموضوع جادا .
نفضتها الدهشة وأرادت أن تقول له أن الأمر لا يعنيه إلى هذا الحد ولكنه أخرسها حين أكمل :
ـــ لقد طلب إلي أن أنتقي له شابة جميلة من عائلة محترمة فلم أجد غيرك توفرت فيها شروطه .
انفجر الغبن في وجهها فسارع المدير ينقذها من ارتباكها:
ـــ فكري في الأمر فسيجيء ظهر الغد لتتعرفي عليه ، فلقد سبق له أن شاهدك وأعجب بك .
حدقت فيه باندهاش وقد تغير صوتها إذ تعثرت في دموعها حين أرادت أن ترد . رفعت نفسها عن الكرسي تتلمس أرضا تضع عليها قدميها ، وانصرفت تواجه مصيرها المجهول .

جيجل في 12 / 07 / 72














الهفوة الأولى


حين تقدمت أخطب "مريم" من أهلها رحبوا بي كما لو كانوا ينتظرون قدومي من زمن بعيد ، وأسرعت والدتي تزوجني بها كما لو كانت ستطير مني .. ولكن بعد شهور حدث بينهما سوء تفاهم فالتزمت الصمت مقهورا حتى لا تتهمني إحداهما بالتحالف مع الأخرى .. كنت أتأمل الجفاء بهدوء مفتعل والألم يقعد على صدري .. وددت أن أنتشل "مريم" من استبداد والدتي وتسلطها فتدخلت بينهما يوم أن دب بينهما شجار عنيف :
ـــ لقد سمعكما كل..
نطق وجه والدتي بالشراسة وقاطعتني :
ـــ أ لمثلي يقال هذا الكلام ؟ أنا التي طلقني والدك عروسا وعشت لأجلك وحدك أشقى ، وحين كبرت كافأتني بهذه "الأفعى" .
ـــ ولكنك أنت التي اخترتها لي .
ـــ وأنا الآن أطلب منك أن تطلقها .
تحجرت الكلمات على شفتي حين عادت تطعن إحساسي بقولها :
ـــ كل امرأة ترتبط بها فهي زوجتك ، أما مكان أمك فلن تشغله امرأة أخرى أبدا .
وأضافت بتوسل :
ـــ إذا كنت تحبني حقا فطلقها ، ودعها تعيش لأجل طفلها كما عشت أنا.
ووجدتني أحالف الوالدة ضد زوجتي حين بدأت أحفر في المستنقع ، فقد دخلت عليها غرفتنا وبادرتها وهي منهمكة في نسج صدار صوفي للوليد المنتظر .
ـــ أما اشتقت لأمك ؟
ـــ إني أنتظر زيارتها.
ـــ العادة أنك أنت التي تزورينها .
ـــ الوضع الآن يختلف .
ـــ تستطيعين أن تذهبي إن شئت .
ويبدو أنها ارتابت في الأمر فقالت بسرعة :
ـــ كلا لن أذهب .
أحبطت خطتي ، فأخذت أفكر لعلني أهتدي إلى وسيلة أخرى أستفزها بها فترتكب الخطأ الذي يجعلني أدفع بها خارج البيت فأستفيد من هذا التعقيد وأبني عليه ترتيبات الطلاق .
في الليل نزعت قميصي وقذفت به في الناحية الأخرى من السرير ، وفي الصباح طلبته ، كنت أتمنى أن لا تكون قد غسلته لأشهر سوط أحقادي في وجهها :
ـــ أعطني القميص الذي نزعت بالأمس
ـــ أي قميص ؟
ـــ الأزرق .
عضت على شفتيها وأحنت رأسها كما لو اقترفت ذنبا :
ـــ أعطني إياه .
ـــ لم أره ، أين وضعته ؟
ـــ اسألي نفسك ، فهذا عملك .
ـــ يمكنك أن تلبس غيره .
أشعلت لا مبالاتها الغضب في عروقي فصرخت :
ـــ أريد هذا القميص ، وما شأنك أنت باختياري .
صفعتها بقوة .. انتحبت بتشنج في وقت كنت فيه أحطم كل ما يقع تحت يدي .. دفنت وجهها بين راحتيها لكي لا ترى ما أفعل .. أمسكت بها من ضفيرتها وصرخت بها وأنا ألوي شعرها :
ـــ اذهبي إلى أهلك فأنا لم أعد بحاجة إليك .
انفجر الغيظ في وجهها وتهدلت سيماته .. عقدت حاجبيها ووجهت نحوي نظرة قاتلة لتتأكد مما إذا كنت أنا الذي اصنع هذا حقا ، لكني أشحت بوجهي عنها وصفقت الباب ورائي بعنف وانطلقت خارجا .
الشارع قاتم جثم الضجر على صدره وارتد عنه الإنس وصدى كلماتي المفتتة تطن في أذني والظلال ترتسم وتنمحي على جدران الأبنية ، ووجدتني وجها لوجه مع أخيها .. لم أمد يدي لمصافحته ، بل طلبت إليه أن يذهب إلى بيتي ليأخذها .
تعملقت الدهشة في داخلي حين عدت إلى البيت وإذا هي لم تغادر الغرفة بعد .. اتقد الغضب في دمي وأحسست بالاختناق فانطلقت إلى الخارج مشحونا ثم عدت إليها :
ـــ اجمعي أشياءك فالسيارة عند الباب
ـــ أين ستأخذني ؟
ـــ ستعرفين ذلك فيما بعد .
حين فتح أخوها الباب تركتها أمامه وانصرفت ، دهش الجميع لعودتها المفاجئة، ولكنهم أخفوا عنها إحساسهم وقمعوا ذهولهم ، ورغم كل هذا لم تيأس من عودتي إليها ، بل بقيت دائما تنتظر اليوم الذي أتراجع فيه عن موقفي وأصالحها، ولكن انتظارها طال ، حتى جاءني نبأ إجهاضها ، فتفتحت جراح صدري عن الألم وأحسست بأنني أتضاءل وأتقزم حين خيل إلي أنهم أرادوا التخلص مني فارتكبوا هذه الجناية ليقطعوا آخر خيط يشدني إليهم .. فقررت أن أتحرر من هزيمتي وألاحقهم قانونيا ، وفعلت ، ولكن الطب وقف في وجهي يلطمني بالحقيقة : ( قرحة في الرحم وجب استئصالها ، ووجدتنا نواجه الأمر في خلال دقائق لنوقف النزيف فوقع والدها على الإقرار وأجرينا العملية) ورفعت عليها دعوى فاستدعيت إلى المحكمة ، المكان الذي لم تكن تتصور أنها ستلقاني فيه .. وجاءت تسعى وقد خطف الذبول ملامحها وسكنها الغبن فهربت سنوات عديدة من عمرها .. وطلبوا منها أن تدلي بأقوالها فلم تقل غير :
ـــ أريد العودة إلى بيتي .
ولكني رفضت إرجاعها وطلبت طلاقها .
نفذت الفكرة اللعينة .. نفذتها فهزمتني الحسرة عليها بعد شهور .. استيقظت من نشوة الانتصار الوهمي ليختنق عالمي وتحاصرني الفجيعة .. كانت والدتي تعتقد أنها ستجد في امرأة أخرى ما افتقدته في الأولى ، ولكنني أطفأت حماسها وقد خاب أملي في إمكانية البدء من جديد .
ـــ لن أتزوج بعدها.
عاود "مريم" النزيف فتصدع كل أمل في إنقاذها من الموت حين صرح الأطباء :
ـــ لبوا لها كل رغبة ، ولا تحرموها من أي شيء تطلبه فأيامها في الحياة صارت معدودة .
ورغم أن أهلها كانوا يخبئون الهول في أحشائهم ولا يبوحون لها بشيء إلا أن الخطر على حياتها كان مرسوما على ملامحهم ، تعلن عنه غشاوة باهتة في عيونهم تحجب عنها دموعهم التي كانوا يذرفونها بعيدا عنها وهم يتمنون إبعادها عن هذا البلاء . وحين أحست بقرب نهاية رحلتها في موكب الأحياء بعثت المسكينة تطلبني لأنها ودت رؤيتي.. استيقظ ماضي الخيبة في خاطري وأحسست بالندم على كل ما بدر مني ترددت في أول الأمر وأخيرا طرت إليها محملا بالتشتت والضياع
دخلت بيتهم المشحون بالصمت فاستقبلني أهلها وقد أكل الحزن ابتساماتهم ، اختنقت لهفتي وأنا أحدق في وجوههم .. أدخلت غرفة جانبية وهناك رأيتها وقد أفرغ وجهها من نضارته واكتسى لون الذبول ، بعد أن هاجر الدم شرايينها مع كل نزيف .. اغتالتني الوحشة وضاقت عروقي بدمها ومع ذلك رطن لساني بالتحية :
ـــ مساء الخير.
قلبت طرفها في كل الوجوه تبحث عن مصدر الصوت حتى حطت نظراتها الباردة على وجهي .. تأوهت بعينيها ثم أغلقتهما على سيل من الدموع انحدر على جانبي وجهها .. زمت شفتيها وأشارت إلي برأسها أن تعال .. ركضت نبضات قلبي في صدري وشعرت به يهوي تحت قدمي ..اتجهت نحوها أدفع الأجساد برفق حتى حاذيتها فزحف همسها إلى أذني حفيفا :
ـــ لقد سامحتك ، لست أنت ، أمك هي التي خنقت حلمنا.
غرقت في ندم كثيف وامتدت حيرتي فملأت فمي رمادا واعتقلت لساني .. طاف بذهني يوم أن ضربتها وأخرجتها من بيتي مقهورة .. لحظات معبأة بالشحوب واليأس مرت قبل أن يخرجني من متاهات أفكاري صوت شاحب :
ـــ إنها تحتضر
حقدت على أمي وازدحمت الكلمات في حلقي ووقفت كالصبار ، وغادرتها وأعصابي تتمزق لأجلها .. فكرت في أن أعيدها إلى بيتي لولا أنها امتطت النعش ، وأقلعت على أكتاف ذويها إلى المقبرة في اليوم الموالي .
                               جيجل في 07 / 01 /70



المطـــاردة


كانت الشمس تتمرغ فوق الأسوار والسطوح والأجساد حين أطلت على الشارع الكبير، ظنت أن الجموع المكتظة واقفة لا تتحرك ، ولكنها لم تلبث أن تأكدت من تحركها إذ أصبحت بينها .
الأجساد ترتطم بالأجساد وتتلاصق حتى تضيق بما عليها من ثياب ، مد يده مستغلا الزحام وطوق خصرها من الخلف ، حاولت أن تدور حول نفسها بسرعة ، ولكنها لم تستطع ، فرفعت يدها ودفعت بها اليد الغريبة الملتصقة بها .. عادت اليد من جديد إلى مكانها .. فقد أدرك هذا المجهول غربتها عن المدينة حين رآها تحدق في الواجهات بإلحاح فراح يطاردها ويجس نبضها بحركات يده الجريئة الوقحة .
المدينة كبيرة والدرب الذي يفصلها عن هدفها طويل ، وقد وجدت صعوبة شاقة في اختراق الأمواج البشرية الكثيفة التي تعج بها الشوارع ، أصابها ما يشبه الذهول وسط هذا الإيقاع الضاج الباعث على الدوار الذي لم تألفه ..المناكب تتدافع والوجوه الرخامية لا تأبه بشيء ، تصاعد الدم إلى أذنيها ووجنتيها وتحرك الغضب في صدرها وقد أحست باليد اللجوج تلامس يدها فانتفضت بعصبية .. سار بمحاذاتها وقال لها بود :
ـــ ما رأيك في مشروب أدعوك إليه ؟
ـــ ...
ـــ ردي علي وتأكدي أنك لن تندمي إذا عرفتني ، مقصدي نبيل  .. أريد التعرف عليك .. جمالك يبهرني .. أنت تختلفين عمن أرى من النساء .
رفعت عينيها إليه أخيرا وقالت :
ـــ أرجوك دعني ، فأنا لا أملك وقتا أضيعه معك ..
أسرعت الخطى وهي تقطع الطريق نحو محطة الحافلات، هذه المرة لم يتعب نفسه بملاحقتها ، لأنه كان يعرف حدودها التي لا تتعدى الحشد الكبير الذي وقف ينتظر.. لاحظت أنه ما يزال في أثرها .. لقد اصبحا الآن فردين في أسرة الانتظار الكبيرة وتساءلت عما يريده هذا الشاب منها ؟ .. كيف تظهر له رفضها بحزم ؟ هل بالصمت أم بالمواجهة القاسية ؟ بدأت تفكر في العبارات التي ستوجهها إليه .. إنه الآن بعيد ، فهل تركها وشأنها؟ ولماذا ينظر نحوها ؟ وصلت الحافلة ، فتدافعت الأمواج البشرية وتصارعت .. وتقهقر الشيوخ والعجزة إلى الوراء .. وضاعت منها الفرصة وهي تتأمل المشهد من بعيد فاقترب منها وقال :
ـــ ننتظر الحافلة الثانية فستكون أقل اكتظاظا.
ـــ ...
يشجعه صمتها على الاسترسال في الحديث .. المحطة تمتلئ من جديد بالمنتظرين كما لو لم تأخذ الحافلة الأولى أحدا   فتجاسرت واندفعت بين الصفوف تشق الخضم ، وقد ملت من الوقوف ولعنت الظروف التي أخرجتها من مدينتها الهادئة ورمت بها في جحيم المدينة الكبيرة .. أمسكت أخيرا بإطار النافذة وسرحت بعينيها تحدق في الشوارع والبنايات والشرفات وكأنها في عالم سحري حين خيل إليها أن نصف سكان الوطن يقطنون هنا .. أحست بجسد غريب يلتصق بها ، لقد زحف نحوها بمهارة عجيبة مستغلا هذا الاكتظاظ المدهش ، رفع يده نحو العمود الأفقي وأمسك به ، فوجدت رأسها محاطا بين المسافة التي تفصل بين العمود وذراعه .. انحنت لتتخلص من الحصار المضروب حول رأسها .. تجاهل محاولتها .. لم تتملص منه إلا بعد جهد عسير.
وصلت ــ أخيرا ــ المحطة المقصودة فنزلت ، وجدته بجانبها.. رفعت رأسها نحوه بثقة ، وكأن المعارك التي خاضتها في الشوارع والحافلة قد أمدتها بشيء من الاعتداد والتكيف مع الوضع فقالت :
ـــ ماذا تريد ؟
ـــ ببساطة ، التعرف عليك .
ـــ ليس لدي وقت .
ـــ أبعد كل هذه الأهوال التي تجشمتها تصرفينني ؟
ـــ إن لم تبتعد عني جمعت حولنا الناس .
ـــ اسمعي أنا الآن ذاهب إلى عملي شرط أن ألقاك غدا في نفس المكان والزمان .
ـــ ...
ـــ سأنتظرك غدا في المحطة ، قال وهو يلوح بيده مودعا .
وفي طريقها إلى منزل أقاربها دخلت إحدى المخابز لشراء كعك ، مدت يدها إلى الحقيبة لتخرج النقود فإذا هي خواء . واكتشفت بعد فوات الأوان لأجل ماذا ظل ذلك الشاب يطاردها طوال هذه المسافة بإلحاح .
قسنطينة في 02 / 02 / 75



نـداء الأمومـة


المكان ساكن كالمقبرة أو أشد صمتا ، حتى الطيور كفت عن التحليق في الفضاء ، حتى الجنادب خرست . والأطفال الذين لا يهدؤون ، أين هي أصواتهم ؟ صمت ثقيل .. ثقيل .. كان الوقت بطيئا يمضي كأنما يزحف على بطنه .. كل شيء ينتظر وقوع حدث ما ، ولكن هذا الحدث طال وقوعه ، فامتد الصمت أكثر .
كانت "زهرة" ونساء أخريات بعيدات عن الأكواخ يرافقهن بعض أطفالهن ، وبين الحين والحين ترتخي يدا "زهرة" فوق حزمة الأعواد وتتداعى ساقاها وتعجزان عن حمل جسمها فتستلقي على الأرض ولا تسمع صويحباتها غير صوت ضعيف : قلبي .. قلبي .
كفت عن جمع الحطب وسرحت ببصرها في الأفق البعيد  ولكن سرعان ما فغرت فاها وشرعت عينيها ثم انطلقت نشطة نحو ابنها وقد علا صياحها :
ـــ العسكر جاء .. العسكر جاء .. العسكر ..
كانت لا تلتفت نحو رفيقاتها اللواتي تناثرن بسرعة البرق وغيبتهن الأحراش .. سلكت "زهرة" طريقا لا يؤدي إلى الكوخ رغم أنها تركت وليدتها الرضيعة هناك ، ولكنها كانت متأكدة من تواجدها في رعاية زوجها الذي سيضطر لحملها عندما يفتقد الطفل الذي تعود على حمله في مثل هذه الظروف، لذلك لم تضيع وقتها بل جرت نحو الجبل تاركة وراءها كل شيء لتنجو بطفلها . هربت مسرعة .. وجرت في مسالك وأحراش ودروب وعرة .. المسافة طويلة ، وحمل الطفل أتعبها ، لذلك كانت تتوقف بين الحين والحين لتلتقط أنفاسها قبل أن تعاود الجري من جديد .. إذ ينبغي عليها أن تقطع المسافة في أسرع وقت ممكن ، وبعدها يمكنها أن تجره تحت أشجار الزيتون .. أمسك غصن شجرة بخصلة من شعرها أوجعها ، وعندها فطنت إلى أن العصابة لا تشد رأسها . بعد مدة التقت بجموع كثيرة من عدة أنحاء تسير في نفس الاتجاه ، انضمت إليهم ، لا حظ بعض الشبان تعبها وتأخرها عن مواكبة الجمع ، فاندفعوا يتنافسون على حمل الصبي.
وصلت الجموع أخيرا إلى المخبإ الذي تعودوا اللجوء إليه فرارا من وجوه العساكر الذين لم يعودوا يكتفون بحرق الأكواخ وسكب الزيت وذرّ الدقيق ، بل تعدوا ذلك إلى هتك الأعراض واختطاف الصبايا وقتل الشيوخ والأطفال .
كان المكان وافر الشجر بعيدا عن مهاجمة الطائرات لأنه يقع أسفل هضبة تجعل كل شيء تحت وقع البصر .. حين وصلت أول من سألت عنه زوجها .. بحثت عنه بين الجموع الكبيرة حتى اهتدت إليه لاهثة متقطعة الأنفاس مبحوحة الصوت ، ولكن ذلك لم يمنعها عن سؤاله إذ واجهته وقد رأته بمفرده :
ـــ أين الصبية ؟ لمن سلمتها ؟
أجابها محاولا أن يبعد عنه أي اتهام :
ـــ تركتها عند الساقية
تساءلت مندهشة :
ـــ الساقية ، ولم تركتها هناك ؟
أجاب وهو يشيح بوجهه عن عينيها اللتين سكنهما بريق مخيف .
ـــ كانت تبكي ، وصراخها يعلن عن وجودي ، وحين أحسست أنهم يتبعونني على هدي صراخها تركتها عند الساقية .
هبت في وجهه ، وإن أي شيء مما قاله لم يقنعها كأنما كان يخاطب غيرها .
ـــ كيف تتركها هناك .. كيف ؟
قال يطمئنها وهو يحاول أن يهدئ من روعها .
ـــ لقد تركتها في مكان أمين .. سرعان ما يرتدون على أعقابهم ونسترجعها .. تأكدي من أنهم لن يأذوها .
وفقدت كل سيطرة على أعصابها فصرخت في وجهه :
ـــ لن يأذوها ؟ .. ومتى نزلت الرحمة في قلوبهم ، لو كنت أعرف أنك ستتركها هناك ، لما غادرت الدشرة ولبقيت معها في الكوخ .. أتفهم .. معها في الكوخ .
اجتمع حولهما الناس وراحوا يواسونها ، ولكنها كانت تزداد غليانا .. واعتراها مزيج من الشعور بالخوف ، بالحنين ، بالشوق بالانهزام ، بالحزن فتربعت على الأرض خائرة القوى ، يائسة وقد سالت عيناها دموعا وتفجرت نهداها حليبا بلل الأولان خديها والأخيران صدرها ، وفجأة انتصبت واقفة ترتعد؛ نداء الأمومة يصرخ في أعماقها ويهيب بها :
أنت أم .. أم .. فهبت كسهم غادر قوسه وقالت وهي لا تلتفت نحو أحد :
ـــ سأعود إلى الساقية ، سأحضرها .
وانطلقت تعدو في المنحدرات مولية من حيث أتت .. ورأت الجنود .. جنودا كثيرين بعدد الأشجار .. عند كل شجرة وبجانب كل دغل وحتى عند الساقية .. ولكن أي شيء لن يخيفها ولن يقف في طريقها .. تحد صارخ رفعته في وجه كل قوة وهي تلبي نداء الأمومة حافية القدمين عارية الرأس ، وجهها بلا ملامح ولا ألوان .
وصلت الساقية ورأت بعيني اللهفة والشوق ما لم يره الجنود بعددهم العديد .. وجدتها أخيرا ، وقد تسللت أشعة الشمس إليها .
رفعت الصبية وضمتها إلى صدرها ، وسارت في طريقها إلى الكوخ .. اعترض الجنود سبيلها ، وطلبوا منها أن تدلهم على المكان الذي قدمت منه ، ولكنها رفضت ، بل ضمت وصرت بأسنانها ولم تجب .. انتزعوا الصبية منها بقوة وعنف ولووا يدها .. ركلها أحدهم في بطنها  ولكنها ظلت على صمتها على أن تعرض الرجال للموت .. رمى العسكري ابنتها إلى الأرض وأفرغ رشاشته في رأسها حتى يرعب الأم وينتزع منها الاعتراف ، وحين يئس منها أطلق رصاصه في صدرها المبتل بالدم والحليب .

جيجل في 14 / 02 / 76





















دائرة الحلم والعواصف


شمس الظهيرة تلهب شعرها المشعث وتغرقها في مستنقعات العرق .. كانت تلف المدينة شارعا ، شارعا لتكوين ملفها ، غير أن المكاتب تركلها كل يوم في غير رحمة
ـــ الجنسية .
ـــ لم يمضها الرئيس .
ـــ شهادة الميلاد .
ـــ نفدت المطبوعات .
ولكن لابد من الصبر ومن الوقوف أمام المكاتب كل صباح فالذي تعود أن يجابه غول الفقر لا تضنيه مثل هذه العراقيل .. عنادها يزداد كل يوم .. عناد مسكون بالرغبة في الخروج من شرنقة عنكبوتية رطبة .. وحين يعصف بكيانها الملل أو ينتابها الغثيان تقول في سرها :
ـــ سأتم الملف وأحصل على وظيفة . ثم تبتسم ..
كونت الملف أخيرا ، ورقة فورقة .. أسرعت به للإدارة المعنية تقدمه .. دقت على الباب .. دخلت بهدوء .. أزاح الموظف الجريدة عن وجهه وقال :
ـــ نعم ، ماذا تريدين ؟
ـــ الملف هو ذا يا أخي .
مد يده ببرودة إلى الولاعة المذهبة .. أشعل سيجارة .. أخذ منها نفسا طويلا .. وضع طرفها على المنضدة البلورية ليقول بلا مبالاة :
ـــ فات الوقت ، أين كنت ؟
ـــ الأوراق هي التي أخرتني ..
ـــ هذا شأنك ..
ـــ تعبت كثيرا حتى أعددته ..
أضاف بعصبية لا تخلو من وعظ :
ـــ أنتم لا تحترمون الآجال وتجيئون لتعطيلنا .
ـــ بقي أسبوع آخر يا أخي ، ثم إنني طوال هذه الفترة وأنا أعده ولم أنهه إنه ..
لم يكن يستمع إلى ما تقول .. كان منشغلا بفحص جسدها جزءا جزءا وأخيرا قال :
ـــ أنا متفهم لوضعيتك ، وبودي لو أساعدك ، تعالي إلى مكتبي غدا لأضعك تحت التجربة ، وإن وفقت فسأقترحك سكرتيرة ، ما رأيك ؟
ـــ ولكنني أحمل شهادة
ـــ إذا ابحثي عن العمل بالشهادة .
سحبت الملف من أمامه واستدارت نحو الباب صفقته وراءها وخرجت .
استقبلتها أمها بلهفة ، كانت تريد أن تطمئن عليها في إحدى الوظائف فوالدها بلا عمل منذ زمن طويل ، وغلاء المعيشة يزداد يوما بعد يوم .. سألتها أمها وقد رأت الأوراق في يدها :
ـــ نعيمة ، لم أعدت الملف ؟
ـــ رفض .
فتحت الأم فمها من الدهشة .
ـــ أبعد كل هذا الجري يرفض .
ـــ قيل لي مدة الانتظار انتهت .
ـــ ألم تقولي هذا الصباح أنه بقي أسبوع آخر .
ـــ لا يهم .. سأبحث في مكان آخر .
لم تشأ "نعيمة" أن تقف أمام أمها طويلا لتحاورها في الموضوع فهي لا تطيق النظر في عينيها الحزينتين ووجهها المحفور بالتجاعيد المبكرة فتركتها وانسحبت .
المكان : حجرة المكالمات الهاتفية .
الزمان : ساعة من ساعات الليل .
لقد قبلت كمستخلفة بالمركز الهاتفي أخيرا ، وإنها لا شيء تكرهه كالجلوس في هذا المكان ليلا ، لكم سعت لتلغي هذه النوبات ولم تفلح ، كل العاملات يأتي دورهن مرة في الأسبوع إلا هي أربع مرات وأكثر ، أ لأنها مستخلفة لا تملك حرية الاختيار ؟ ولذلك يجب أن تشتغل إلى أقصى حد .. قد تكون كل هذه الأسباب مجتمعة ، وقد لا تكون .. ورن جرس الهاتف فجأة يقطع تفكيرها:
ـــ ألو .. ألو ..
جاء صوت رئيس المركز قويا آمرا زلزل كيانها فردت ، في اضطراب عفوي .
ـــ ألو .. نعم ..
ــ تعالي حالا ..
التفتت نحو المراقبة تستفسر عن سبب هذا الطلب المفاجئ وفي مثل هذا الوقت وعلامة الدهشة تعسكر في عينيها والخوف يتوزع عبر مساحة وجهها الجميل . أحدثت المراقبة حركة بكتفيها وقلبت شفتيها معلنة ألا رأي لها في الموضوع .. كانت تهبط الدرج وهي تحدث نفسها :
ـــ لا تدرين .. أنت لا تدرين ، ومن الذي يدري أيتها العانس الحرباء  وأقدميتك في البريد وخبرتك فيه لا تقل عن خبرة أي مدير، ومع ذلك تبدين دائما مترددة .. عصبية.. تائهة.. جبانة تسيرين وفق التعليمات التي لقنت لك منذ عشرين عاما لا تحيدين عنها .. مسكون رأسك بالخرافات وأعمال المشعوذين ، معتقدة أن الذي أخر زواجك هم الجيران والأقارب الحاقدون عليك .. ليتك تتزوجين فترتاحين وتريحين .
وقفت أمام باب المكتب مرتبكة .. دقته بيد مرتجفة في وقت كان قلبها يغوص حتى قدميها .. تلقت أمرا بالدخول .
ـــ مساء الخير .. طلبتني سيدي ..
تلقاها بوجه غضوب وسحنة متجهمة :
ـــ أنت لم تتأخرين عن عملك ؟
ـــ أنا ؟
ـــ وتثرثرين أثناء العمل ..
ـــ والـ..
قاطعها بغضب :
ـــ لا داعي للقسم إنه أول وآخر إنذار ، انصرفي ..
وبمجرد أن همت بالخروج حتى هب نحوها واقفا وكمن يخلع أثوابه المسرحية قال :
ـــ هل صدقت مزاحي يا فاتنة ؟
حدقت فيه مبهورة ، فواصل :
ـــ أنت أنشط عاملة في المركز ، وسأقترحك عاملة دائمة    فأنا مولع بك .
أخرست المفاجأة لسانها فلم تحرك ساكنا ، ولم تجد ردا .. اقترب منها .. مد يده إلى خصلات شعرها ..اضطربت .. أوشكت أن تسقط على الأرض .. استغل ارتباكها فالتصق بجسدها .. لم تلبث أن أفاقت إلى نفسها فانتفضت مذعورة .. طوقها بعنف .. حاولت التملص .. دارت معركة مد وجزر بينهما، ظل ماسكا بها ، فصرخت بأعلى صوتها .. حاول تهدئتها فلم يفلح .. تراجع إلى الوراء منهزما فانطلقت إلى الخارج .. وحين كانت تصعد الدرج لاهثة نحو حجرة العاملات التفتت خلفها فرأته يقف عند الباب منتفخ الصدر .. ونادى المراقبة فنزلت إلى مكتبه مسرعة .
حين أطلت على غرفة الهاتف أحست أنها تحمل خيبة العالم وأدرانه .. اليوم فقط أدركت سر الدعوات المفاجئة التي كان رئيس المركز يباغت بها العاملات ليلا .. جرت قدميها نحو مكانها وعلى مقعدها تهاوت في تثاقل وأضربت عن العمل.. رفعت العاملات السماعات عن آذانهن الواحدة تلو الأخرى في تأييد صامت مما أثار ضدهن المراقبة التي عادت لتوها .
ـــ نعم .. خير ، ماذا حدث ؟ وما دخل الباقيات فيما حصل؟
صرخت إحداهن :
ـــ يهمنا جميعا ، لأن هذه الأشياء تحدث كل يوم ، فإلى متى نبقى على صمتنا ؟
ـــ أنتن الآن في العمل .. وتحت الطلب في أي وقت ، أبقين في بيوت أهاليكن فليس للناس ذنب فيما يحدث .
صاحت أخرى :
ـــ ما ذنبنا نحن .
ـــ ...
كانت أزرار الأجهزة تشع باللون الأحمر تنتظر الرد ولا من مجيب .. جو الغرفة يغلي برنين يصم الآذان ، وأصوات مخنوقة ترتفع هنا وهناك .. مدت "نعيمة" يدها بعفوية إلى السماعة .. رفعتها إلى أذنها على عادتها ، انفتح الخط على صوت امرأة مألوف لديها :
ـــ صليني بالمستشفى
ـــ لتحدثي "مراد" ، لن أمكنك منه الليلة ، دعيه يسهر على راحة المرضى .
حدثت نفسها وأغلقت الخط .
وضعت السماعة أمامها من جديد وراحت تواصل إضرابها الصامت .
وقف على الباب رئيس المركز يجيل طرفه بين العاملات والمراقبة .. اتجه نحو هذه الأخيرة .
ـــ ماذا يحدث هنا ؟
ـــ يرفضن العمل .
ـــ والسبب ؟
ـــ ...
ـــ سأعرف كيف أتصرف مع الحمقاوات .
قالها بعصبية وهو يستدير خارجا .
كانت المدينة في الصباح تعج بالحديث عن الانقطاع الغريب الذي طرأ على أجهزة الهاتف طوال الليل .
" الماكرات نمن طوال الليل وأهملن الشغل والزبائن هذه التعليقات تسمعها حيثما تمشي في الشوارع وأصبح رئيس المركز في حرج من أمره ، بعد أن وصل الخبر إلى جميع السلطات المحلية ، فقدمت الاحتجاجات في الصباح الباكر ، لابد أن يفعل شيئا ما لإنقاذ الموقف وكان يردد في سره .
ـــ هذه التافهة ، ماذا تظن نفسها ؟ هل هي أحسن من الأخريات حتى ترفضني أنا .. جاء زمان صارت النساء تضربن عن العمل ويتكتلن ضدك يا رئيس المركز .
فكر أن يوقف "نعيمة" عن العمل ، لكنه تراجع حين تذكر العواقب الوخيمة المترتبة عن هذا القرار فاكتفى بتقديم توبيخات سجلت في ملف العاملات المضربات منتظرا مجيء الوقت المناسب للانتقام .
ازداد سخط العاملات وارتفع الضغط وكبر الرفض لهذا الإجراء التعسفي ضدهن .. ولكنهن استأنفن العمل في اليوم التالي بعد أن قدمن شكواهن إلى كل من النقابة والحزب اللذين وعدا بالتحقيق الرزين في القضية كل العاملات وقفن إلى جانب رفيقتهن عدا المراقبة الحرباء التي ظلت تعدها بمنصب دائم في الوظيفة وبترقيات سريعة إن هي سحبت شكواها .
ظل الزمن يجري ومفعول القضية يخبو تحت أنقاض النسيان ورقيت "نعيمة" ولم تعد مستخلفة .. رئيس المركز لا يخفي تقربه منها من خلال هذا الجميل الذي أسداه لها.. وفكرت "نعيمة" هل سترفض هذا العرض ؟ ولم ترفضه وهي التي ــ ومنذ زمن بعيد ــ تسعى لتحقيقه ، وهاهو قد تحقق .
نقلت من غرفة المكالمات إلى الأمانة العامة قصد إبعادها عن رفيقاتها المؤيدات لها .. ظلت المراقبة على اتصال بها تهدئها.. تتملقها تثني على تسامحها وأصالة منبتها .. كانت تقوم بكل هذا لتجس نبضها وتعرف أخبارها عن كثب واستطاعت في لحظة ما أن تقنعها بضرورة التخلي عن موقفها القديم من الرئيس وتنصحها بسحب شكواها ضده .. وذات مساء قدمت لها ورقت تبرئ فيها الرئيس من التهمة الموجهة إليه لتوقعها .. ترددت بادئ الأمر ولكن زميلاتها الجديدات ألححن عليها بأن تفعل .
انعقد أخيرا اجتماع مجلس النقابة ، لكنه انعقد ليدين "نعيمة" ويبرئ ساحة رئيس المركز بعد الاطلاع على الورقة الموقعة باسمها .. كل الأنظار صارت تتجه نحوها وتحدق فيها بشزر .. وتلا الأمين العام للنقابة القرار القاضي بفصلها عن العمل ، على أن ترسل منه نسخ لكل الإدارات حتى لا توظف مستقبلا ، ملحا في كلمته على ضرورة التخلص من هذه العناصر المفسدة للنظام .. ازدادت دهشتها أكثر وهي تسمع القرار .. حدقت في كل اتجاه تتوسل النجدة ، ولا من معين ..
لم تخبر والدتها بحادثة الطرد من البريد ، إذ ظلت تخرج كل يوم من البيت ولا تعود إلا في المساء والمكاتب تركلها من غير رحمة .. وأدركت في الأخير ألا أمل لها في الحصول على وظيفة جديدة ، كما أنها اقتنعت بعدم التوقف عن مساعدة أسرتها ، وعلمها الطواف في الشوارع والإدارات أن المال لا يأتي عن طريق العمل أحيانا .
سكيكدة في مارس 1980





















حــذاء الصوف


حين غادرت القرية مع الفجر تجر أطفالها الحفاة ، كانت تحمل في صدرها حقد الأرض ومن عليها .. ذاكرتها خربة تنسى أكثر الأشياء والأسماء والحوادث ولا تحتفظ إلا بهذه الجمل ترددها حين تنفرد بنفسها وهي في شبه ذهول عما حولها :
ـــ الرجل مات والأرض اقتسموها .
ـــ الإرث انفردوا به .. يعني استولوا على كل شيء .
ـــ نهبوا مال أطفالي ويدعون أن أباهم مات قبل جدهم وجدهم عاجلته المنية قبل أن يورثهم فلم يعد لهم حق في شيء .. اللعنة على مثل هؤلاء الأعمام آكلي مال اليتامى ويريدون أخذهم ليخدموهم ويرعوا بهائمهم .. لكأنما حبلت بهم زوجاتهم .. لن يكون لهم ذلك وأنا حية ، لن يكون ..
وتبتسم في استهزاء :
ـــ وحتى زوجاتهم يخفن مني على أزواجهم .. وهل مثل هؤلاء الرجال يغار عليهم ؟ هؤلاء أشباه رجال وهن لا يدرين .
وفي ليلة عاصفة غافلت الجميع وهربت بالأطفال صوب المدينة تتحدى الفقر والجوع والعري ..وهناك دخلت بيوت الأغنياء وخدمتهم بإخلاص وأمانة ، نظفت أغراضهم وأزالت أوساخهم ولكنهم استغلوا سذاجتها وعوزها فقتروا عليها ، ولكنها صبرت حتى كبروا وعرفوا حقيقة الأمر فقرروا رفع دعوى في المحكمة ضد أعمامهم الأثرياء ، ولكنها رفضت استرجاع حقوقهم بهذه الطريقة واعتقدت أنها ارتاحت منهم إذ زوجتهم ولكن والدتي عادت إليها ذات يوم وقد شج رأسها وسال دمها يخضب حائكها فيثير فضول كل المارين ، وثارت جدتي وحلفت ألا تعيدها لأبي ولكني كنت حجر عثرة في سبيل راحتهما ، فبعد شهور تمزق حذائي وتسرب الماء إلى قدمي فانتفخت أصابعهما واحمرت وصار يضايقني انتعاله في كل مرة أذهب فيها إلى المدرسة .. وطلبت من والدتي أن تشتري لي حذاء جديدا ، فقالت :
ـــ إذا بعت حوائجي التي ألبس ربما أستطيع ، لم لا تذهبين إلى أبيك في المعمل فقد تثيرين عطفه ويشتريه لك .
حين دخلت المعمل بحثت عنه طويلا حتى اهتديت إليه ،  وحين رآني لم يهتم لأمري بل نظر إلي وقال :
ـــ عمن تبحثين هنا ؟
ـــ عنك ..
ـــ أنت تعرفينني ؟..
انسابت دموعي ولم أرد ..استدرت عائدة فسألني بعصبية.
ـــ ماذا تريدين ؟
ـــ حذاء .
ـــ تشتريه لك التي تبعتها .
ـــ ...
انصرفت أجر حذائي الممزق وحمل من الحزن في صدري وطنين الآلات في أذني ودوي في رأسي أشد .. عدت إلى البيت .. نظرت والدتي إلى وجهي الكسير وحذائي الممزق ولم تقل شيئا بل راحت توقد النار .
توقدين النار أو لا توقدين ، غرفة جدتي التي تأوينا تتحول إلى بئر من الصقيع ليلا .. ورغم أن الأواني التي تملكها ترص كلها إلا أنها لا تكفي لتلقي قطرات الماء التي يجود بها السقف في كل ليلة ماطرة .. لا أحس بالدفء إلا وأنا أهم بمغادرة الفراش ، أصابع قدمي أحس وكأن حشرات تسكنها وكلما حاولت القضاء عليها تهرشني أكثر ، فأظل أحكها ، أحكها حتى تصرخ جدتي في الظلام :
ـــ البلية هذه لا تتوقف عن الركل طول الليل .
ـــ ...
وأتناوم ولا أرد ، وفي الصباح الباكر انتعل الحذاء الضيق وأنطلق أعرج نحو المدرسة .. وفي القسم وبمجرد أن أجلس أتخلص منه لأشغل نظري بمراقبة حذاء المعلم وهو يروح ويجيء به بين المكتب والسبورة بينما عقلي يطوح بعيدا عنه .. أحيانا مع طيف والدتي المقهورة ، وطورا مع والدي المتجبر .. وحين يخرج التلاميذ إلى الساحة أركن إلى زاوية أتأملهم منها وهم يرتعون منتعلين أحذيتهم المريحة .
وفي يوم شتوي رأيت بالساحة أطفالا يتقاسمون تمرا ويشرعون في التهامه ، راقبتهم من بعيد وتمنيت لو أحصل على نصيب منه ولكن كيف .. كيف ؟ . حين عدت إلى البيت طلبت من والدتي أن تشتري لنا تمرا ، ولكنها رفضت.
وبكيت لاستعطافها فصرفتني إلى دكان حينا لأجلب رطلا منه يدفع والدي ثمنه حين يمر عليه .
ـــ أعطني رطل تمر .
وزنه التاجر وسلمه لي فاستدرت منصرفة ولكنه سألني:
ـــ وأين الثمن ؟
فقلت في حياء :
ـــ سيدفعه والدي مساء .
فتحت اللفة خلال الطريق ورحت ألتهم الحبات الطرية ، وحين وصلت وجدت حشفا قد استبقي ضمن تجاويف الورق .. قدمتها لوالدتي فرفضتها ، أحلتها على جدتي التي كانت ممددة على حصير تعصرها الآلام .. فلم يشجعني الوضع على الكلام ، فانتهزت الفرصة وخطفت حذاءها الصوفي وانصرفت متسللة ، والحقيقة أن قعودها عن العمل في حالات المرض يفرحني فهو يمكنني من الاستيلاء على حذائها الصوفي الذي يريح أصابع قدمي المنتفخة باستمرار .
عندما عدت من المدرسة في إحدى الأماسي سلمتني والدتي القفة قائلة :
ـــ جدتك مريضة اذهبي إلى دكان الحي واحضري زيتا وعجائن .
ذهبت ، ولكن التاجر قال :
ـــ إذا أنت لم تحضري النقود فاذهبي ، فقد نصحني أبوك ألا أسلمك شيئا على حسابه .
وتمنيت لو أغوص في أي حفرة قبل أن أسمع هذا الرد الذي ألقي على مسامع الأطفال المتواجدين بالدكان .
سحبت القفة من بين ساقي وعدت أجر قدمي جرا على الطريق الترابي ، ورأسي تشغله أفكار كثيرة وشفتاي تهمسان:
ـــ من أين نأكل ؟ .. نأكل .. نأكل ؟ ..
كانت عيناي على الأرض حين لمحت قدمي رجل تتوقفان عن السير مواجهتي .. رفعت رأسي نحوه مرتعدة :
ـــ من ؟ .. بابا ..
ـــ من الذي علمك أخذ التمر على ..
وكلمات أخرى ما سمعتها حين هوت صفعة مدوية التهب لها وجهي وصعدت الحرارة إلى أذني ورأسي ، فبكيت بحرقة .
ـــ تعالي معي إلى البيت ..
قال وهو يشدني من ذراعي .. حاولت التملص منه فجرني بقوة .. وقف أطفال الحي يتفرجون علينا وقد تركوا كل ألعابهم ..
تبعته مرغمة فأدخلني البيت واستقبلتني أمه بتجهم :
ـــ لماذا لا تأتين لزيارتي ؟
ـــ ...
ـــ أمك هي التي تمنعك من المجيء ؟..
ـــ ...
ـــ قولي .. هي أم أمها ؟
ـــ هي .
ـــ تبيتين الليلة هنا ، وسأشتري لك حذاء . قال أبي .
ـــ يجب أن أخبرها ، ستقلق علي .
ـــ دعيها تنفجر من القلق ، أو تحسبين أنها تحبك أكثر منا؟
ـــ ...
استطعت أن أنسحب بهدوء بعد أن أعلنت لهما موافقتي على البقاء .. وحين وصلت إلى الشارع أسرعت أعدو صوب أمي في منزل جدتي ، وفي الطريق استوقفتني إحدى الجارات وسألتني بفضول :
ـــ ماذا حدت في بيت جدتك ، لم تبكون ؟
خفق قلبي ويبس لساني في حلقي فلم أقوى على الرد .. وهنت ركبتاي ولم يعد في ما يساعد على الجري .. ومع ذلك أجمعت كل قوتي وعدوت .. ووصلت لاهثة .. مرتعدة .. خائفة .. بحثت عن والدتي بين جموع نسوة ملأن الحجرة الرطبة ، وحين اهتديت إليها سألتها:
ـــ ما بها جدتي ؟
ـــ اشتد مرضها ..
وبكيت بحرقة لأننا بمرضها سنجوع أكثر ..
وفي الليل سكنت أنفاسها وماتت .. وسرت وراء نعشها وقد تطوع عدد قليل من الرجال لدفنها .. سرت منكسة الرأس نحو المقبرة القريبة وعيناي على حذائها الصوفي لا تفارقانه .

سكيكدة في 06 / 09 / 80














حدث ذات ليلة


دفعوا الباب بركلات عنيفة فاندفع حطاما ليصطدم بالجدار العاري ، ودخلوا الباحة ينشرون الضجيج والصخب والخوف .
اندفعوا نحو غرفته في الجهة اليسرى ، ففوجئوا ببابها ينفتح بهدوء .. صوبوا بنادقهم ومصابيحهم اليدوية باتجاهه فبدا أشعت الشعر حافي القدمين وهو يزرر معطفه المتهدل بطريقة خاطئة .. أغمض عينيه إذ طعنهما الضوء الساطع وأشاح بوجهه .. تململ في مكانه وقد تسمرت رجلاه فلم يبد حراكا إذ رآهم عسكريين .
سكنته الفجيعة وخفق قلبه .. هرب الدم من وجهه ويبس لسانه في حلقه حين وقف بينهم أعزل من أي سلاح ، وتمنى لو تأخروا دقيقة واحدة ليتمكن من النزول إلى قعر البئر ويرهف السمع لخطواتهم الثقيلة فوق رأسه ، لكن يبدو أن المخبر وجههم إلى مكانه بدقة فلم يترك له مجالا للإفلات .
تعاركت في صدره مشاعر شتى هي مزيج من الرهبة والبطولة والتحدي في هذه اللحظة الحاسمة .
اندفعت أمه مذعورة تسد طريقهم إليه وقد خنق القهر قلبها:
ـــ ماذا تريدون منه ؟
رطن العسكري الذي اعترضها بكلمات لم تفهمها . أمسكت بابنها من ذراعه متشبثة به فدفعها أحدهم بعنف ملقيا بها على الأرض ثم داسها آخر بحذائه الثقيل . رنا إليها ابنها بنظرات يمزقها الألم وصر على أسنانه .
انتشروا في أرجاء البيت ينقبون فيشيعون الفوضى في محتوياته ، ثم التفوا حوله جميعا ، قيدوه ودفعوه أمامهم بقوة ورموه داخل سيارة متوقفة عند الباب .. أداروا المحرك وغاصوا في ظلام دامس تمزق كبده أضواء سيارة سريعة .
رفع رأسه إلى السماء  فتعلقت عيناه بنجمة منزرعة في الأديم اللا متناهي كانت تغطي بنورها على بقية النجوم .. ودّ لو يحتضن خيوطها الراشحة بالتوهج في غمرة هذه اللحظة الموحشة .. لم يحدث أن رأى من قبل نجمة بمثل هذا التلألؤ المبهر فلقد تحول وجه السماء إلى دائرة ضوئية كبيرة في عينيه.
اتجهت السيارة نحو الشاطئ وتوغلت في الرمال لتتوقف بمحاذاة الصخور المسننة .. أنزل الجسد الضئيل من السيارة .. فك قيده .. مزقت سكون الليل عيارات نارية اخترقت ظهره .. زحزحوا الجثة وقذفوا بها وجه البحر .. زحفت الأسماك نحو الشاطئ تتحسس الجسد المثقوب الذي اكتحلت عيناه بأشعة نجمة كبيرة قبل أن تغوص في الماء ..
أما البحر فتخلى عن لونه فجأة ولبس ثوبا أحمر قاتما تلك الليلة .

سكيكدة في 1986










الأيدي السوداء


ساروا به في رواق طويل يمسح بعض عتمته قنديل شاحب .. كانت تنتصب خلف القضبان الحديدية أعين باردة لا تعبر عن إحساس معين .. دفعوا أمامهم بابا صدئا وألقوا به في قبو رطب ثم انصرفوا عنه .
تقزز من رائحة مدمرة صدمت أنفه .. لم تلبث عيناه أن تعودتا على العتمة فراح يتأمل المكان .. لسعه البرد ، بل أحس به يخرز مفاصله فحبا نحو الجدار وغطى جذعه الأعلى بدثار كان ملقى هناك ، وانكمش حول نفسه فتحوا الباب الحديدي بغتة واندفعوا نحوه .. أمسكوا به من قفاه واقتادوه نحو غرفة سديمية تحت الأرض .. جردوه من ثيابه البالية وطرحوه أرضا .. لم تلبث السياط أن شرعت تحز جلده وتحفر أثلاما في لحمه .. ثم أخذوا يكيلون له الضربات بأحذيتهم الثقيلة ويتقاذفونه بين أرجلهم ويدوسون على بطنه ورأسه بقسوة وحقد كما لو كان بينه وبينهم ثأر قديم ، تمنى لو ينهون مهمتهم معه بسرعة بعد أن يجهزوا عليه .
توقفوا ليستعيدوا قوتهم .
ـــ مع من تتعاون ؟
ـــ ...
ـــ اعترف .
ـــ ...
ـــ قل أسماءهم ..
ـــ ...
ـــ لن ينفعك الصمت .
ـــ ...
هذه فرصتك الأخيرة .
ـــ ...
فقع سكوته أعصابهم فوجهوا له ضربات أقوى نحو بطنه ورأسه فتمدد فوق البلاط الإسمنتي فاقدا الوعي وقد انبجس الدم حارا من فمه وأنفه يكسو المكان لونا قانيا .. تقهقروا إلى الخلف
يتأملونه في صمت .
ـــ إنه يحتضر .
ـــ سيلفظ أنفاسه الأخيرة بعد حين .
ـــ سنرتاح منه .
ـــ لشد ما هي متعبة ومتعنتة هذه النماذج .
ـــ لكأنما من طينة غير بشرية شكلت .
خرجوا من القبو تباعا وأمروا السجان أن يغيب الجثة الموسومة بالسياط والرضوض .
اقترب الرجل من الجسد المخضب وانحنى عليه متحسسا أنفاسه فإذا هي واهنة لا تزال تتردد في صدره وترسل إشعاعات الدفء في بقية الأعضاء .. ارتد نحو الخلف مذعورا وأخذ يفكر في الطريقة التي يسرب بها الخبر إلى الحفارين فلا يدفنونه حيا ويعملون على تهريبه .
قبل أن ينقل السجان قدميه إلى الخارج كانت أياد سوداء قد اختطفت الجسد الحار بالنبض وطارت به صوب المقبرة .
سكيكدة في 86







رحيــــمة


شد انتباهي صخب حاد وأصوات مدوية امتصت صمت القسم .. رفعت رأسي عن الكتاب أرهف السمع لصراخ عارم في الخارج وإذ التلاميذ كلهم ينصتون مثلي في ترقب وخوف.
اتجه المعلم نحو الباب وأطل على الفناء فتحركنا فوق المقاعد الخشبية متهامسين مستفسرين سبب هذا الصخب .. فوجئنا بالمعلم ينطلق مسرعا فلممنا أشياءنا المبعثرة وأشرفنا على الساحة ، فإذا هي تعج بتلاميذ الأقسام الأخرى .. نزلنا السلم من تلقاء أنفسنا ولم ننتظر أمرا من أحد .. سمعنا آنئذ طرقا عنيفا على الباب الخارجي .. لم يمنح الطارقون فرصة فتحه لأحد ، بل خلعوه بضربة مجمعة فانفتح على مصراعيه .. شرع العسكريون أسلحتهم في وجوهنا فانتكصنا إلى الخلف وتشتتنا في كل الأنحاء فزعين صارخين .. تقدموا منا ساخطين وهم يومئون إلى الباب فأدركنا أنهم يأمروننا بالخروج .
انطلقنا خارج الأسوار يملأنا الذعر ، وغيبت الأجساد الصغيرة خلف أبواب الدور في الأزقة ووجدت نفسي وحيدة في الشارع الذي تطوقه العساكر ، فأحسست برهبة مروعة قبل أن أرى موكبا عظيما يتقدمه نعش .. انتظرت وصوله مشحونة بالقلق والتردد والخوف .. كان الجمع خليطا من الرجال والنساء والأطفال يحملون وجوها متعبة يغمرها العرق والحماس .. تعرفت على بعضهم فأحسست بشيء من الألفة والاطمئنان .. كانت حناجرهم تتمزق وهم يهتفون :
ـــ تحيا الجزائر ..
غير آبهين بالعساكر الذين كانت فوهات بنادقهم السوداء مسددة نحوهم ترصد كل حركاتهم ، قذفت بنفسي وسط التيار أردد الهتافات مع المتظاهرين .. وبعد خطوات قليلة أحسست بيد تشدني من ضفيرتي ..التفت خلفي وإذا بــ"رحيمة" زميلتي في المدرسة وقد رف على شفتيها ظل ابتسامة واهية ..
أحسست بفرحة تشع في صدري مشوبة بالدهشة وقلت :
ـــ ألم تذهبي إلى البيت أنت الأخرى ؟
ـــ لقد ندمت على حضوري إلى المدرسة هذا الصباح .
قالت بحماس . وتساءلت :
ـــ ولماذا ؟
قالت توشوش وشعاع أخضر ينطلق من عينيها :
ـــ لكي أحضر الانطلاقة ، فلقد كنت أعرف أنهم سيتظاهرون خلال دفن الشهيد .
ـــ من أخبرك ؟
ـــ لا أستطيع البوح لك ..
برقت عيناها بالتوهج والاعتداد واندفعت وسط الموج دون أن تمهلني لأسألها أكثر . واصلنا السير نحو المقبرة وعند بابها توقفنا نرقب الرجال وهم يوارون الشهيد تحت عاصفة من الأهازيج والأناشيد .
تدافعت الأجساد من جديد عائدة نحو الشارع الرئيسي وهدرت الأصوات جامحة ملتهبة .. انتابني شعور بالضآلة وأنا لا أرى سوى المناكب المتراصة تظللها سماء رمادية من شهر ديسمبر 1960 .. وكلما بلغنا زقاقا جانبيا ينضم إلينا متظاهرون جدد مجتاحين الأسلاك الشائكة .. وحين أشرفنا على درب ضيق رأيت جموعا من النساء والأطفال يحمسوننا بالتصفيق والزغاريد وقد منعتهم الأسلاك من الانضمام إلينا فقذفونا بأعلام كانت محشوة تحت ثيابهم ، ووقع أحدها على رأس "رحيمة" فتشبثت به وأصرت عليه .. توسل إليها أحد الشبان أن تسلمه له فرفضت ، حملها عندئذ فوق كتفيه فنشرته بين ذراعيها النحيلتين ورفعته عاليا .. ازدادت تعنتا وتحديا ، تحول صوتها إلى بركان يغطي على كل الموكب بنبراته الفتية الحادة فيضرم الحماس في الصدور ، التف حولها بعض الشبان وتقدموا بها الموكب المزمجر العاصف بالغضب .. تنشق قلبي طعم الغيرة وأنا أراها معلقة في السماء .. تعالى دخان أسود من سيارات متوقفة أضرم المتظاهرون النار فيها .. اعتلى أحدهم بناية وأحرق العلم الفرنسي .. ثقبت آذاننا طلقات نارية فعلت صيحات غضب وإصرار وتحدّ .. هزت رعشات سريعة صدر "رحيمة" فتهاوت على الأكتاف .. نظرت إلى وجهها فرأيته ينطق بالألم وقد غادر الفجر الوضيء عينيها .. ضمت العلم بقوة إلى صدرها فخضبه دمها .. انحنى الشبان ليجعلوها تقف على قدميها، ولكنها تهاوت بين أيديهم يتدفق الدم الفائر من صدرها النحيل فيبلل الشارع ويمتزج بالتراب .. ودوت عيارات نارية أخرى تمزق الأجساد الفتية المتلاحمة فسقط شبان آخرون بجانبها .. وعجبت للأيدي التي ظلت تشد العلم الذي حجب وجه الصبية ..
ورفعت رأسي إلى أعلى وشخصت ببصري فشاهدت الحمائم المذعورة تغادر وكناتها الرمادية فوق شرفات المنازل وتحلق عاليا في سماء المدينة .
سكيكدة في 86





















الأسوار والايدي الطويلة المعروقة


الصمت يغلف المكان .. تعاون على فرضه السجناء والسجانون على السواء .. كره هذا الصمت وودّ لو يسمع شيئا .. أي شيء يقضي على هذا السكون المريع .. يحس بالاختناق لأنه لم يتعود ضيق المكان وقد نشأ في الرحب والسعة .. يضرب بقبضته على الجدار الأصم .. يضغط بأسنانه على شفته في عصبية .. يولول .. يصرخ .. ولا يأتيه أحد .. يرمقه السجناء بنظرات تختلف من شخص لآخر .. تعودوا صراخه وحفظوا كلماته ودعواته :
ـــ آه يا رب .. ماذا صنعت ؟ أنا لم أحرق مساجدك صليت وزكيت وعازم أن أحج بيتك ، فكيف لا تسمع دعواتي .. كيف لا تقبل توبتي ؟
على أرضية الرواق يسمع وقع خطوات قادمة فيهدأ ويرهف السمع وهو يتمنى أن يكون القادم شخصا آخر غير الحارس الأبكم الذي يقدم لهم الأكل وينصرف .. ولكن الخطوات ابتعدت عنه وحل السكون من جديد يحاصره .. كان يود أن يسأل عن المدة التي يمكن أن يقضيها هنا قبل المحاكمة وعن نوع العقوبة التي قد تسلط عليه .. قبع على أرض الحجرة الرطبة الباردة ، وراحت عيناه تمسحان الجدران ككل يوم يمينا وشمالا .. أعلى ، أسفل .. متسليا بفك رموز بعض الكلمات والشعارات المحفورة على الحيطان والسقف ، وحين ينجح في فك رموزها يحس بغرابة مضمونها فيحدث  نفسه :
ـــ يفكرون في الوطن والثورة والآخرين ، وينسون أنفسهم والمصير المفجع الذي ينتظرهم .. عجيب أمر هؤلاء السجناء لا أحد منهم يشكو بكلمة .. من أي طينة عجنت قلوبهم ؟ أنا لا أفهم شيئا في هذا السجن .. تطاردنا الثورة حتى داخل السجون لا شيء يتحدثون عنه سواها .. أف من هؤلاء العراة مازال لديهم أمل في التغيير حتى وهم هنا ، وتوقف عن الهذيان وأفاق إلى نفسه وإذا هو محاصر من جديد بالأسوار فثار ضاربا كفيه ببعضهما مرددا :
آه يا رب ماذا صنعت ؟ أنا لم أحرق مساجدك ، صليت وزكيت ..
استلقى على ظهره يائسا ومد رجليه وهو حين يفعل ذلك تطالعه في كل مرة صور محلاته الكبيرة وواجهاتها البراقة وسلعه التي تفترش الأركان :
ترى كيف يتصرف عمالي الكثيرون من غير مشورتي ؟.. والزبائن هل يسألون عني ؟ .. والناس ، ماذا يقولون ؟.. كيف أواجه الشامتين والحاقدين ؟ .. سأقنع الجميع أني أوقفت خطأ لبضع ساعات اضطررت للسفر بعدها فجأة .. ليتني أستطيع أن أغادر هذا السجن وأعود إلى تجارتي وأرزاقي .. ويحي إن أعدموني قبل أن يعلم والدي وينقذني .
اقترب منه أحد السجناء المحتجزين من غير محاكمة منذ سنين وقال :
ـــ عندما تدفن في هذه "المقبرة" يجب أن تنسى أنه كان لك مال أو أطفال أو أصحاب .. بل أنت الآن بلا ماض ولا مستقبل ، وإنما أنت في حاضر كنقطة صغيرة معرضة للتلاشي والانحلال في أي لحظة ، وحجم حاضرك لا يزيد عن رقعة السماء التي تراها من هذه الكوة .
ـــ أنت مناضل وأنا لست كذلك ، أنا غني ، مالي ولثورتكم .. لو أنهم يقبلون أدفع لهم نصف ما أملك مقابل أن أغادر هذا المنفى ، وإن كنت أنت يائسا من الخروج فأنا لست كذلك .
ـــ هل تخاف الموت ؟
ـــ ألا تخافه أنت ؟
ابتسم المناضل وقال :
ـــ أنا لا أموت سوى ميتة واحدة ، وإن لم أمت هذه المرة فلن أنجو في مرة قادمة .
ـــ ألا تحب الحياة ؟
ـــ ليست أية حياة .
ـــ هل أنت متزوج ؟
ـــ نعم ..
ـــ هل أنجبت أطفالا ؟
ـــ ليس لدي وقت لذلك .
ـــ إلى متى وأنتم تحاربون ؟
ـــ إلى أن تنهار هذه الجدران وتتسع هذه الكوة التي تطل على السماء فلا تحجبها الأسوار أبدا .
وأضاف في سره :
ـــ ونتخلص من أمثالك واحد ، واحدا .
ـــ أنتم مجانين وستعدمون عن آخركم .
ـــ أليست الأرض التي نموت من أجلها وطنك ؟
ـــ الأرض أرض الله وهي تسع الجميع .
وهروبا من هذا الحوار المحرج رفع عقيرته بالدعاء :
ـــ يا رب ماذا صنعت .. أنا لم أحرق مساجدك .. صليت وزكيت ..
تأمله المناضل طويلا قبل أن يتجه نحو الزنزانة للاجتماع برفاقه وبحث موضوع هذا المريب ودراسة هويته وأخباره الواردة من الخارج .
وخلا الرجل إلى نفسه فوضع يديه تحت إبطيه وراح يذرع الحجرة الضيقة جيئة وذهابا ، ثم اتجه نحو مكانه ونشر كفيه على وجهه وبدأ يسترجع بعض الصور في محاولة يائسة للهروب من واقعه ، فصدمته صورة خادمته ممددة على حصير في المطبخ بعد أن قضى عليها حين تأكد من حملها منه ، غير أن رجال الأمن كانوا له بالمرصاد حين ارتابوا في الأمر وألقوا القبض عليه بعد أن حققوا .. تململ في مكانه بعصبية وتمتم في سره :
ـــ تبا لها من كلبة ، ألتقطها من الشارع وأدخل السجن لأجلها ؛ وهي التي ما عادت تصلح لشيء بعد أن دهستها سيارة الإسعاف وأصيبت بارتجاج في المخ ، وإني أحمد الله على أن أحدا من أطفالي لم يكن يرافقها يوم ذاك .
داهمه النعاس ، فاستلقى على وجهه ، وفي الساعات الأولى من الفجر سمعه بعض السجناء يصرخ في كبت ويتلوى تحت الغطاء .. اقترب منه أحدهم وبمجرد أن حركه ارتعد فتح عينيه وراح يحدق بذهول فيمن حوله كأن به مسا من الجنون وبدأ يتفوه بكلمات متقطعة :
ـــ الخادمة .. السلع .. الفضيحة ..
ولما اطمأن إلى الحاضرين واسترد بعض وعيه قال بهدوء :
ـــ أنا بصراحة لا أطيق أن أبقى هنا وسأعمل على أن أكون أول واحد يغادركم بإذن الله .
ثم تساءل :
ـــ كيف تتحملون البقاء في هذه الزنزانات الرطبة ؟ أنتم مجانين ولو بقيت مدة بقائكم لكنت قد اختنقت ..أوه نسيت أن أخبركم أنني استطعت الاتصال بوالدي الذي كان عسكريا في صفوفهم وسيعمل على إخراجي ، حدقوا في وكونوا صرحاء ، هل يليق بمن كان في مثل وجاهتي وثرائي أن يدخل السجن ليحجز معكم !
نحو عنقه مدوا أياديهم الطويلة المعروقة لتتشابك حولها في حلقة كبيرة بدأت تضيق .. تضيق وتضغط .. تضغط ، لم يصدق في الأول ما يصنعون  وحين تأكد كانت الحلقة قد اقتربت من عنقه وطوقتها بقسوة .. جحظت عيناه ..تدلى لسانه .. وتهاوى على الأرض بلا حراك .
سكيكدة في 08 / 03 / 81




المجـــنونة


حين تخطيت باب الكوخ الطيني رأيت ( قصاع ) الكسكس تملأ كل فراغاته .. حملت النساء الجفنات وانطلقن بخطى حثيثة نحو المقبرة ، وتبعتهن أصعد الوهدة الوعرة حيث تجثم في الأفق البعيد مقبرة القرية .. قرب الضريح وضعنا كل شيء على العشب والقبور المتراصة تحف بنا من كل جانب .. جلسنا صامتات ننتظر وصول بقية النسوة .. ولم نكد نسترد أنفاسنا حتى بدأت أسرابهن تتوافد .. وتحلقن حول القبر دفعة واحدة وطفقن يولولن بأصوات محملة بالنحيب الذي جلل المقبرة ورددت الوهاد صداه .. وبدأت الأصوات تخفت شيئا فشيئا وترتفع الرؤوس المنكسة عن الأرض .. وانحلت الدائرة المضروبة حول الضريح وافترشت النسوة الحشائش ، ووزعت الملاعق ورفعت الأغطية عن الطعام وشرعن يأكلن بهدوء .
أقبلت "فجرية" حاملة طفلا وهي تتحسس الطريق بحذر في اتجاههن .. تخلت إحداهن عن ملعقتها وقامت وأجلستها في مكانها .. وكأن قدوم هذه العجوز أضرم فيهن فتيل الثرثرة فانفجرن بمختف التساؤلات :
ـــ هذا طفل "خديجة" ، فأين هي ؟
ردت بعد أن ازدردت اللقمة الأولى :
ـــ أخذت فجر اليوم إلى المستشفى .
ـــ لقد باتت تنزف طوال ليلة أمس دفقات من الدم إلى أن أغمي عليها.
ـــ ومتى تعود ؟
ـــ بعد أسبوع قال الطبيب .
ـــ وما الجدوى من بقائها هناك وقد ضاع الجنين .
أجريت لها عملية تطهير الرحم وهي في حاجة للتزود بالدم الذي فقدته.
ـــ المسكينة ، وأطفالها الكثيرون لمن تركهم .
ردت "فجرية":
ـــ ليتني استطعت أن أتولى أمرهم .
قالت إحدى العجائز بلهجة الواثق الخبير :
ـــ لو لم تذهب إلى المستشفى لشفيت في بيتها بالأعشاب والكي .. أضافت عجوز أخرى مؤيدة :
ـــ بمجرد أن تحس الواحدة منهن ألما حتى تتمارض لتذهب إلى الطبيب .
ـــ ولدت اثنتي عشرة مرة ولم يكشف على جسدي طبيب.
أخذ الموضوع أبعادا ومتاهات جديدة لم ترق بعضهن فتغامزن وفتحن ملفا آخر شغل نساء القرية ورجالها :
ـــ ما أخبار "الهاينة" مع "بوجمعة" ؟
ـــ ربح القضية وتم الطلاق .
ـــ استضعف المسكينة، لو أن أباها مازال حيا لما جرؤ على ذلك . .. قالت إحدى قريباته محتدة :
ـــ كأن "بوجمعة" أول من ابتدع الطلاق .
تدخلت "فجرية" بعنف :
ـــ أنسي أيام كانت تحمل إليه الزاد إلى الجبل متحدية الخونة والعساكر ، والآن حين انتفخ جيبه مالا يتخلى عنها .
قاطعتها أخرى مؤيدة :
ـــ لقد تمسك بها حينها لتجوع وتعرى معه ، واليوم يستبدلها بواحدة في عمر ابنته دون حياء ..
فجأة أطلت " الهاينة" من المنحنى ، فاشرأبت الأعناق وارتجفت القلوب .. كانت تحمل في يدها اليمنى هراوة طويلة وفي الأخرى سطلا .. يغطي رأسها منديل حائل اللون تطل منه خصلات شعرها الأشعت ، وفي أعقابها يسير كلب هزيل ، تململت النسوة في أماكنهن محاولات الإفلات ولكنها أوقفتهن بهراوتها وبحركة عنيفة من رأسها .. ران على المكان صمت جنائزي عندما قالت :
ـــ حذار أن تتحركن .
وحين تراجعن خائفات غرقت في ضحك صاخب .. كانت تحدجنا بنظرات غضبى وكأنها لا تعرف لنا وجها قبل اليوم .. شعور مبهم يسكن صدرها ، وتفكير غريب يدور برأسها .. تعقد حاجبيها تارة وتزم شفتيها تارة أخرى .. فجأة تتخلى عن هذه الحركات فتسترخي ملامح وجهها وتستكين قليلا إلى الهدوء .. كن خائفات منها مشفقات عليها حتى وهي تقول :
ـــ جئتن تحيين حفل زفاف "بوجمعة" كيف لا تستدعينني وتجئن خفية عني ؟
وضربت فوق الضريح بهراوتها فتطاير التراب فوق الرؤوس وقد أضافت بصوت مبحوح :
ـــ سنظل نقيم له الولائم هنا كل مرة .
تجرأت إحدى العجائز وخاطبتها :
ـــ تعالي لتتناولي بعض الطعام ، أنت جائعة .
حدجتها بازدراء ولم ترد .. وبإشارة من يدها تقدم الكلب إلى إحدى الجفنات داسا خياشيمه فيها ، تنحت النسوة عن طريقه ودنت بدورها وجلست بجانبه تأكل من نفس الجفنة .. خاطبتها امرأة أخرى بكلمات هادئة علها تشغلها عن مشاركة الكلب طعامه.
ـــ تعالي اجلسي بقربي . وأفسحت لها مكانا بجانبها .
لم تلتفت إليها بل انتصبت فجأة تنظر صوب أرملة المرحوم ثم قالت: ـــ تعالي أنت .
نظرت المرأة حولها متمنية ألا تكون هي المقصودة فوجدت كل العيون معلقة بها فقالت :
ـــ ولماذا أنا يا "الهاينة" اختي ؟
ـــ تعالي .. لا تخافي مني ..
تقدمت نحوها المرأة بخطى متعثرة فقالت لها :
ـــ ارقصي فهو عرس زوجك .
ـــ أنا لا أرقص ، اطلبي ذلك من غيري ..
رفعت السطل لتجعله على رأس المرأة المذعورة فتراجعت إلى الخلف ولكنها حذرتها .
ـــ لا تتراجعي .. تقدمي حتى أبارك لك .
ـــ شرط ألا تجعلي هذا السطل القذر على رأسي .
ـــ هذا السطل طاهر ، وأنا أتوضأ منه .
وتحت تهديد هراوتها قبعت المرأة أمامها ، فاقتربت منها وجعلته على رأسها ، فراحت قطرات الماء الملوث تلون ثوب المرأة بنقاط سوداء بدأت تكبر وتكبر ..
ـــ ارقصي . قالت متوعدة .
ـــ لن أرقص . أجابت المرأة بصوت منكسر .
ضربت الأرض برجلها وهراوتها وقالت :
ـــ ترقصين مرغمة .
واتجهت نحو النساء آمرة إياهن بالتصفيق والغناء .. فتحركت الأكف مصفقة برتابة : طق .. طق .. فانخرطت المرأة في عويل مذعور وانتقلت عدوى النحيب إلى بقية النساء .. اختلط التصفيق بالبكاء .. فأمسكت المجنونة بطرفي هراوتها وعلى صوت هذا الإيقاع الغريب راحت تؤدي رقصات دائرية عنيفة ، لم تلبث بعدها أن انحنت على الأرض لاهثة في وضع طقوسي صامت ثم ارتفع صوتها كعواء ذئب جريح .
سكيكدة في 83
العربــة

دفعت الجارة قطعة اللوح التي تسد المدخل ووقفت تلم ما تناثر من شعر فوق كتفيها وهي تلوك قطعة من اللبان بين أسنانها .. غيرت المرأة الأخرى من جلستها على الحصير حيث تسكب شمس الربيع أشعتها الدافئة على جسدها ورفعت نحوها عينين أتعبهما الضوء وقالت :
ـــ ادخلي فأنا بمفردي .
تخطت الزائرة العتبة قائلة :
ـــ لم أجد ما أعمله فجئت أستأنس بك .
شد انتباه المرأة الجالسة أسورة لماعة في معصم زائرتها فراحت تنقل البصر بينها وبين الوجه المزين بعناية وقالت :
ـــ من أين اقتنيت هذه الأساور ؟
ابتسمت وغمزتها بنظرات كاسحة وهمست :
ـــ أهداها إلي صانعها .
حدقت في عينيها باندهاش وقد غار لسانها في حلقها فأكملت الأخرى وقد قرأت في عينيها بريق الذهول :
ـــ ولم لا تتحلين أنت ؟
فقالت بيأس :
ـــ لأنني لا أملك ، نحن في البادية لا نطالب أزواجنا بمثل هذه الأشياء لأننا نعلم مسبقا أننا لن نحصل عليها .
أسقطت الضيفة موجة من الغضب على ملامحها وقالت :
ـــ أنت هنا ، ولست هناك .
ـــ وما الفرق ؟
ـــ هنا بإمكانك أن تتحصلي على كل ما ترغبين فيه بنفسك ؛ لأن عربة زوجك تلك لن تحمل إليك سوى المزيد من البؤس.
عرشت الخيبة على وجه المرأة الجالسة وقالت :
ـــ وماذا أصنع لأملك ؟
ـــ ما دام الشباب يسكن جسدك فبإمكانك أن تحصلي على الكثير .
قالت وقد هزمتها الحيرة :
ـــ أحصل ؟ أنا أحصل ، من أين ؟
ردت الزائرة بهدوء لزج :
ـــ تعملين معي في بيتي أولا حيث أعرضك عليهم و..
ـــ ومن هم هؤلاء ؟
ـــ الذين يدفعون .. الباحثون عن المتعة ..
انسحق إحساس المرأة وتدفق الذعر من وجهها فتركتها الجارة لذهولها وقالت في اعتداد وهي تغادرها :
ـــ فكري بالأمر وسأعود إليك .
تهالك الزوج على الفراش بمجرد أن مضغ اللقمة الأخيرة من عشائه داخل كوخه المعتم الذي عجز المصباح الضئيل عن قهر ظلمته .. انحنت المرأة فوق زوجها وغمرته بضفائرها المحلولة ومدت يدها بهدوء إلى وجهه تعبث بشاربيه هامسة :
ـــ اسمع يا أنت .. هل تسمعني يا رجل ؟
ـــ ...
ـــ هل أنت معي لأكشف لك عن السر الذي يريحك من عذاب تلك العربة .
توجه إليها وقد انبسط وجهه وابتسم بهدوء :
ـــ كفى مزاحا يا امرأة .
ـــ إني جادة .
ـــ وأي سر هذا الذي تخفين ؟
ـــ سر عظيم لا يكشف عنه بسهولة .
ـــ هل هو مريح لي حقا ؟
ـــ بالتأكيد .
ـــ فإذن قولي .
قالت بحذر لترى وقع كلماتها على وجه زوجها :
ـــ رأيت أسورة في معصم الجارة فسألتها عن ثمنها ، وإذا بها لم تدفع مقابلها دينارا .
قال بسرعة وقد تصلب وجهه وعشش في عينيه الجد :
ـــ هل سرقتها ؟
ـــ كلا لم تسرقها ولكنها حصلت عليها بطريقة أخرى .
تساءل باستغراب :
ـــ وكيف ذلك وزوجها حمال مثلي .
ـــ أعرف ..
اتجه نحوها بكل اهتمامه وسأل :
ـــ هل هي تشتغل ؟
ـــ نعم .
قال بتخاذل :
ـــ ولكنها لا تغادر البيت فيما أعلم .
ردت بتحد :
ـــ تشتغل في كوخها .
أضاف باستسلام :
ـــ ربما كانت تجيد الطرز والخياطة .
قالت ضاحكة وبلهجة ممطوطة :
ـــ لا ..
ـــ وضحي ؟
قرصته من أذنه وقالت باستعلاء .
ـــ العمل الذي تستطيع أي امرأة أن تمارسه إن شاءت أن تحصل على المال الوفير من غير عناء .
حرك رأسه وقلب شفتيه فأضافت وقد صرعها غباؤه :
ـــ تستقبل الرجال في كوخها .
ارتجف الرجل بعنف .. وغارت الحياة في عينيه فرفع يده المعروقة وأنزلها على وجهها بوحشية أرعفتها دما .. ثم قفز محموما فوق الأرض المتربة ليفتح الباب تحت نظراتها الباكية وينطلق هائما في ظلام الليل الموحش .
ثقبت سكون الليل طرقات فأس عنيفة كانت تهوي على الكوخ بشراسة بعدها كدس الرجل أشياءه فوق عربته وغاص في العتمة وحيدا .
نطت قطة صغيرة من بين الخرائب وتبعت الرجل في صمت، استوقف العربة فتسلقتها واستقرت فوقها .
سكيكدة في 87

امرأة في العاصفة


رأيتها يوم دخلت عيادة التوليد .. وجهها ينطق باللامبالاة وهي تعبر الممر رائحة غادية بشعرها المحلول المنسدل على كتفيها العاريتين وهي نافس .. استغربت لهذا التصرف الأرعن الذي لم يثر انتباه بقية النساء .. كن لا يأبهن لها ، لكنني ظللت أرصد حركاتها كل ليلة حين تغادر فراشها وتتجول في العنابر كما تفعل بالنهار .
صباح اليوم التالي اقتحمت علي غرفتي فارتعت لمقدمها واستعددت لتنفيذ طلباتها .. ابتسمت لي محيية واتجهت نحو الحنفية ففتحتها وأخذت تغسل يديها وهي تقول :
ـــ مغسلتي غير صالحة للاستعمال .
قلت وأنا أدثر ارتباكي بابتسامة:
ـــ لا بأس يمكنك أن تغسلي هنا، فأنا لا أتضايق من وجودك .
تساءلت بزهو :
ـــ أحقا ؟
ندمت على تسرعي في اتخاذ مثل هذا القرار ، ودعمت ندمي حين ناولتها علبة حلوى أخذتها شاكرة وانصرفت .. بدأت أشك في أمر جنونها لولا أنها عادت وجلست على السرير المقابل وقالت :
ـــ ماذا أنجبت ؟
ـــ صبيا ..
ـــ وأنا صبيتين .
ـــ يحفظهما لك الله .
ـــ يحفظهما أو يأخذهما ، فلم يعد يهمني وهو ينتظر طفلا .
أدهشني هذا الحكم ، ولكنها ضاعفت دهشتي حين وشوشت في أذني :
ـــ ما رأيك لو تأخذي مني إحداهما وآخذ ولدك .
أفرغ رأسي من محتواه ولكنها أعادتني إلى واقعي حين قالت :
ـــ ستتغير معاملته لي حتما ، إنه يهددني بالطلاق ، فإلي أين سأذهب وقد توفي والداي .
هوت أفكاري في القاع وأنا أحس بها تحاصرني حتى اهتديت إلى هذا الرد :
ـــ وزوجي أيضا يريده صبيا .
قالت وقد انصبت ملامح شحوب على وجهها :
ـــ إنهم كلهم بمثل هذا التفكير .
ثم هزت رأسها وقد اختنق الغضب في عينيها :
ـــ إنه لا يخلص لي .. وحين أواجهه بالحقيقة يعتدي علي بالضرب .
قلت بلين :
ـــ وهل ضبطته متلبسا ؟
فقالت بإصرار تحاول إقناعي :
ـــ لا .. ولكن غيري شاهده .
قلت أقتلع من رأسها الظنون وقد بدأت أحفر في جذور محنتها :
ـــ لا تصدقي كل ما يقال لك .
اشتعلت حنقا وقد صفعتها مرارة مواعظي .
ـــ كيف لا أصدق وقد بدأ الهمس حول مغامراته .
ـــ أنت التي ساعدتهم على نسجها .
عبر الرجل الممر فانطفأ حماسها وداهمها الارتباك ولمحها فأقبل نحوها ينز لهفة .. برعم على وجهها فرح طفولي فرنت إليه بنظرات مستعطفة حين راح يسائلها :
ـــ ماذا أنجبت ؟
عندها عرشت الخيبة على ملامحها دفعة واحدة وانسكب صوتها مبحوحا:
ـــ صبيتين ..
مسح على وجهه بيديه وأولاها ظهره وخرج ..أخذت تبحث عن أرض تجر فوقها قدميها فاختلج في حلقي نداء مر :
ـــ يا .. ما اسمك .
وحين لم تسمعني غمرت وجهي باللحاف لكي لا أرى المزيد من مأساتها .







بداية أولى
حين فتحت عيني من إغفاءة قصيرة ألقيت نظرة على المهد فرأيته خاليا .. اشتعلت المرارة بداخلي فعويت بصوت متعب .. جمعت شتاتي ورحت أعدو في الممرات وصراخي المستميت يجمع حولي المزيد من المريضات .
بداية ثانية
استوقفتني الطبيبة عند آخر الرواق وسألتني بجدية :
ـــ أ أنت أمه ؟
صرخت باكية :
ـــ أنا ..
فأضافت بهدوء :
ـــ طفلك بخير .
خنقتني الفرحة ولم أعرف كيف أعبر لها عن امتناني حين راحت تكمل :
ـــ لقد أوقفنا المرأة عندما كانت تحاول الإفلات به من الباب الخلفي.
تداعت قوتي واختلج الأسى في حنجرتي فتربعت على الأرض وبكيت .. بكيت هذه المرة لأجلها .. لأجل تلك المرأة .
سكيكدة في 1988








تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة